(متاهة/الجزء الثاني)
كان عمي نحيلا وطويلا، تماما كعمود النور، التقط كفي ببرود قتل ابتسامتي ، راح يسحبني خلفه، فيما تعلقت يدي الأخرى بحقيبتي ،التي انقادت لأصابعي على مضض ، قال لي وهو يطلق العنان لسيارته ،دون أن ينظر صوبي :
-لاتقلقي، سيكون كل شىء على مايرام. رحت احدق فيه وقد ارتسم ظل ابتسامة على شفتي المزمومتين ، كانت ملامح وجهه جادة وصارمة كحد الموس، قلت :
-لست قلقة، فقط كنت أشعر بالاختناق قليلا، لكن انظر، مع هذه الطبيعة الساحرة، ليس عليك القلق. راح يهز رأسه مرات عدة،وقد طفحت ملامحه بالرضا، أدركت مع نفسي انه من محبي الطبيعة، توقفت السيارة أمام منزل أنيق، يدل مظهره الخارجي على الترف،همس لي قبل أن نترجل :
-أن عمتك مخلوقة رقيقة، طيبة وفاتنة، ستعجبك كثيرا.ثم أضاف خاتما عبارته بغمزة من عينه الرمادية :
-أنها تمقت شيئا واحدا، السهر لوقت طويل خارج حدود المنزل!هيا عزيزتي، أظنها تحدق بنا من خلف النافذة، هاتي يدك. كانت عمتي أرفع عودا من عمي، انتابتني الدهشة، تبا،ألا يوجد طعام في هذا البيت! كانت هشة وناعمة تماما، قبل أن تنهض عن مقعدها، كنت قد هرعت اليها، قبلت يدها التي بانت عروقها، ولا أعرف كيف لمعت عيني، آه، اتكون عمتي قد ذكرتني بأمي. دعيني انظر إليك، هكذا نعم. همست لي عمتي، ثم راحت تتفحص وجهي بعناية.قالت وهي تحدق في وجه شقيقها :
-أترى، توقعت شيئا من هذا، نفس عيني والدها، حتى الأنف! دقق معي.راحت عمتي تعبث بشعري، كانت رقيقة فعلا، همست لي بصوت ابح :
-أظن بأنك جائعة! أم تفضلين الراحة أولا، انظري لي، نعم في عيني هنا.تنهدت بصوت مسموع وأضافت، وهي تفتح ذراعيها على وسعهما:
-هذا البيت كله لك ، بيتك، نحن نرغب بأن تكوني سعيدة، لكن قبل ذلك كله يجب تشعري بأنك فرد من العائلة، انهضي حبيبتي، سيرشدك عمك إلى غرفتك ريثما تحضر ابنته، نعم لديك ابنة عم مثلك حلوة وطيبة. اندهشت تماما وانا أسير خلف عمي في الممر الذي يقود إلى غرفتي، كيف لم يخبرني إن لديه إبنة! توقفنا عند إحدى الغرف، أشار برأسه نحو الباب ثم استدار منصرفا ،دون أن ينبس بحرف، هززت كتفي وانا أضع يدي على اكرة الباب وفكرت، أن عمي هذا غريب فعلا. كنت نائمة حينما تسلل إلى أنفي عبير أخاذ، آه ثمة خيال أنثى يداعب ستارة النافذة، لحظات ثم سطع الضوء، رمشت بعيني، فركتهما بأصابعي، سمعت همسا مهذبا ورقيقا :
-أنها طريقتي لأيقاظ الآخرين، وقد نمت كثيرا. جلست عند حافة السرير، كانت رشيقة لكن بأمتلاء محبب، أما ابتسامتها فكانت تشق ملامح وجهها المدور ،فيما انسدل شعرها الأشقر على كتفيها بشكل جذاب، ابتسمت لها، انتابني إحساس بأنها ستكون خير رفيقة لي،لا أعرف، فقد طغى علي شعور بأني أعرفها منذ الطفولة! قالت وهي تسحب الغطاء عني برفق :
-لم أتناول شيئا، ايرضيك أن أظل جائعة في انتظارك؟!عليك بالاستحمام، سيخفف عنك ذلك التعب، هيا. كانت منكبة على تأمل اظافرها ،حينما ولجت صالة الطعام، رفعت رأسها وشملتني بنظرة طويلة متفحصة، ثم مالبثت أن اتسعت ابتسامتها وهي تقول :
-أنك بصدق فاتنة، كما قالت عمتي تماما، وسمرتك جذابة جدا، اتعرفين!؟ظهورك معي سيحدث ضجة، سيلتف الشباب سائلين، من هذه الأميرة الشرقية.ثم راحت تصفق بيديها الصغيرتين،احمر وجهي واختنقت الأحرف في حلقي، لم يكن الإطراء والغزل بعيدا عني ولا غريبا، لكنه بدا صادقا هذه المرة، اكتفيت بأغماض عيني لبرهة وكأني اقول لها، ممتنة منك عزيزتي. وضعت عمتي مبلغا من المال عند ميس، أعني ابنة عمتي، وقد اكتشفت الأمر لاحقا، اوصتها بي خيرا، مسحت جبيني بقبلة شفافة أشبه بالسحر، ثم أمسكت بيد ميس وضغطت عليها بود، قالت :
-الطقس رائع ،لن يحل المساء بسرعة، فقط كونا حذرتين، واستمتعا جيدا. تأبطت ميس ذراعي، كنا نسير شبه ملتصقتين، راحت تحدثني عن دراستها وعن الجامعة، كان صوتها مرحا أشبه بزقزقة عصافير، كنت للحظة قد هممت بسؤالها عن والدها، لا أعرف كيف خطر ببالي، لكني سرعان ماطردت هذه الفكرة من خيالي، كانت محدثة بارعة، سرعان ما ازالت شبح الحزن الذي كان يحيط بروحي، وجدت نفسي اشاركها بعضا من ذكرياتي، ياالهي كم أحببت تقطيبة جبينها، وعلامات الدهشة والتعجب التي كانت ترتسم في ملامح وجهها، وهي تتابع حديثي، احببتها جدا، كانت مستمعة صادقة.(يتبع )
بقلم /رعد الإمارة /العراق
19/10/2019 السبت