الأربعاء، 3 يوليو 2019

قصة بعنوان{{هارب من الايام}} للكاتب العراقي القدير{{رعد الإمارة}}

(هارب من الايام )

أوقف العربة الصغيرة في نهاية جسر الشهداء ثم أخذ يتأمل المكان! سيكون موقعا جيدا حتى إنه قريب من شارع المتنبي! هكذا همس لنفسه! تطلع يمنة ويسرة! مازال الوقت مبكرا! تناول صحيفة قديمة من العربة ثم انحنى يفردها على بقعة صغيرة من رصيف الجسر! أخذت الريح تتلاعب بأوراق الصحيفة لكنه ثبتها باقدامه! مد أصابعه وامسك ببعض الكتب ثم وزعها عشوائيا وفكر بأنه يحتاج لقطعة قماش كبيرة تحل محل أوراق الصحيفة! لم يكن لديه كتب كثيرة وإنما بضع عشرات منها! لكنها ستفي بالغرض إن إستطاع بيعها! نعم ستؤمن له العيش لبضعة أيام! تجمدت أصابعه  فجأة على واحد من كتبه الاثيرة جدا إلى نفسه! لمعت عيناه! ثم تحسر ولعن الماضي !انحنى على العربة وأخذ يقوم بإخراج مزيد من الكتب وأخذ يتحاشى النظر فيها وفي اغلفتها التي تذكره بعبق الماضي الباذخ والثري! لن يعرفني أحد ربما هنا! وهذا هو المهم! ما عدا ذلك فليذهب كل شىء للجحيم! كان هذا آخر ما همس به لنفسه قبل أن يشعر ببعض العطش! حدق للأعلى وترك الكتاب يسقط من بين أصابعه! كيف لم أفكر بهذا! ان أشعة الشمس ستصبح لاهبة حتما! هل سأبقى هكذا في العراء! تبا ليس ثمة من منفذ! لكن لو كان لدي مظلة! ياه ثم أخذ يتخيل ألوان المظلات وفخامتها!أخذ يحدق في بعض اتجاهات الجسر الكبير! كان ثمة باعة مثله  أخذوا يفترشون الأرصفة! لكنهم مثله! صفق بيديه مثل طفل ثم أخذ يضحك! لامظلات لدينا! سنكون شواءا طيبا لأشعة الشمس! انتهى من ترتيب الكتب أخيرا واعجبه جدا منظرها الفخم وعناوينها القوية!  وترك مكانا صغيرا للمجلات القديمة ذات الصور المغرية! وفكر بأن صور الممثلات فيها ستجذب انتباه بعض المراهقين! اتكأ على افريز الجسر! ونظر بأمعان لبضاعته فشعر بالرضا! استدار بكامل جسده وأخذ يصافح ببصره موجات المياه  الخجولة ذات اللون البني!ملأ صدره بمزيد من الهواء غير عابئا برائحة النهر الثقيلة والكريهة! استل سيجارة من علبته ثم اشعلها وأخذ ينفث دخانها!!!؟لم يطل الأمر كثيرا إذ سرعان ما أخذ بعض المارة يتباطئون بخطواتهم أمام بضاعته! أخذ بعضهم ينحني الآن! انتابه شعور بالفخر فأغلب كتبه كانت نادرة وثمينة وقد ابتاعها أيام العز! إنه مازال يذكر ذلك! أخرجه رجل وقور من شروده وهو يحمل بيده كتابين! وأدرك انه أمام شخص يعرف قيمة الكتب! تجادلا قليلا حول السعر! أضاف كتابا ثالثا للمجموعة ثم اتفقا أخيرا ونقده الثمن! شعر بالأمان! ورقة نقدية كبيرة تدفىء جيبه الآن! بحث بعينيه عن شخص ما يبيع الماء ربما! لاح له أحدهم في مرمى البصر! صبي صغير! هرول بسرعة إليه! علبة عصير وقنينة ماء! إذا احتجت أخرى سأومىء لك بيدي من هناك ! انظر تلك بسطتي حيث العربة الصغيرة! وداعا الآن! ولم ينبس الصبي بأي حرف! لقد اعتاد ذلك! كان الوقت يمضي ببطء شديد فيما أخذت الشمس تصفع كل شىء بأشعتها اللاهبة! إنه يوم آخر من أيام الصيف الطويلة المملة!لفحته نسمة هواء فاترة فشعر ببعض النشاط! انحنت إمرأة أربعينية تصحبها أخرى في الثلاثين ! تناولت كتابا ضخما بأوراق مصفرة! إنه الأرض الطيبة! ملحمة كبيرة عن الأرض والكفاح من أجلها!نقدته الثمن ثم أخذت تتهامس مع رفيقتها حول  الكاتبة بيرل باك وكتابها الفخم هذا!كان وضعه جيدا أخذ يفكر! فرغم لهيب الحر إلا أن ملمس ومنظر الأوراق النقدية أصابه بالحبور! سأضيف لبسطتي هذه بعض علب السجائر والمناديل الورقية! لكن قبل كل هذا يجب أن أعزل مبلغا جيدا لأبتياع بعض الكتب الأخرى! رأس المال يجب أن لايمس! كانت الأوراق المالية تتراكم في جيبه الآن! فيما أخذ عنقه وجبينه يسبحان  بحبات العرق! إنه لا يملك منديلا حتى! خرجت أصابعه فارغة من جيبه الثاني! ود لو يمضي الوقت بسرعة! لكن مازال أمامه بعض الوقت ريثما ينتصف النهار! وهكذا مضى الوقت وأخذ يعتاد الأمر تدريجيا وما أن حلت فترة الظهيرة حتى اكتشف بأنه قد باع معظم الكتب! شعر بتعب في قدميه وبأن عنقه قد أصابه تشنج خفيف! أخذ يدفع العربة الآن عائدا إلى غرفته المتواضعة  في الفندق! أفرغ ماظل لديه من كتب وحرص على إغلاق الغرفة  ثم عاد للعربة وأخذ يدفعها حتى اوصلها لمالكها ونقده الأجرة! ابتاع علبة سجائر في طريق العودة ثم قصد أقرب مطعم من فندقه! أخذ يتناول الطعام بطريقة آلية فيما كان ذهنه شاردا تماما وهو يفكر بنوعية الكتب التي عليه ابتياعها وكميتها! أشعل سيجارة وطلب قدحا كبيرا من الشاي وأخذ يخطط ويحسب! عندما عاد لغرفته كانت قدماه تشتعلان مثل النار! أخذ حماما  سريعا ثم استلقى على سريره بعد أن رفع قدماه للأعلى واسندهما للجدار! سرعان ماشعر بأن جسده أصبح ساخنا تماما وبأن تأثير أشعة الشمس في النهار الطويل قد ظهر أخيرا! نام نوما متقطعا تخللته أحلام لا اول لها ولا آخر! وكان أحيانا يفتح عيناه ويسمع صوت المروحة في الظلام! فيمسح عرقه الكثيف ثم تنهار ذراعاه جانبا ويعود للنوم! حتى أطل أخيرا نور  الفجر ولاح ضوء النهار من خلال النافذة! وصل مبكرا هذه المرة أيضا!كان في ذهنه ألف مشروع ومشروع! ملأ رئتيه بالهواء ولفحه النسيم العابر عدة مرات! أكمل توزيع ماتبقى لديه من كتب ومجلات وقرر مع نفسه بعد أن تأمل بضاعته بأن الوقت قد حان للتوسع وإن فكرة البارحة قد اختمرت في رأسه تماما! وهكذا لم يمضي وقت طويل حتى تحولت  معظم الكتب التي تفترش الأرض إلى أوراق نقدية!وقرر الأنتظار ساعة أخرى فالرزق طيب! كان منشغلا في إشعال سيجارته لكنه عندما نفث دخانها التقت عيناه بأحد أشباح الماضي! تبا! كيف هذا! ازدادت ضربات قلبه بشدة وإصفر وجهه وشعر بأن شفتيه قد يبستا أخيرا! كان الآخر يحدق فيه وعلى شفتيه إبتسامة من وجد كنزا أخيرا!لم ينبس بأي حرف فيما قال الآخر وهو يقترب خطوة منه! هل تركت كل شىء خلفك من أجل هذا!؟هل تدري إن  معظم من تعرف هناك توقعوا واحد من إثنين!أما أن تكون ميتا!أو غنيا كما في الماضي! لكن هذا! وارتسمت إبتسامة سخرية على شفتيه! واصل الصمت فيما كان يفكر بالاسوأ من الأخبار! العاصفة قادمة! هو يشعر بها! استند بظهره إلى افريز الجسر وشعر بإنه مريض جدا! أخذ يبلل شفتيه بلسانه فيما اقترب الآخر منه أكثر هذه المرة! كان عليك عندما خسرت كل شىء! كان عليك أن تواجه الأمر بشجاعة! لكنك هربت! أغلقت هواتفك وتركت خلفك عاصفة!لم تكن هكذا! كنت قويا وذكيا  وهذا ماجعل أغلب الناس يشيرون إليك بالبنان حينما كانوا  يتحدثون عنك! اغرورقت عيناه فجأة واشعل سيجارة فيما كانت أصابعه ترتجف! همس بصوت ميت! أنا متعب! أرجوك دعنا نتحدث عن كل شىء فيما بعد! أرجوك! أهذا يعني أنك لاتود معرفة أخبار من تحب! أهلك! معارفك! أصحابك! هكذا قال الآخر بنبرة شبه غاضبة! نعم نعم ستحدثني عن كل شىء طبعا! لكن ليس هنا! إنظر انهم  يحدقون بنا! غدا! ليكن غدا نعم! لدي متعلقات هنا وهناك سأتخلص منها هذا اليوم ثم نلتقي غدا هنا صباحا! نذهب بعدها لمكان هادىء! ونتحدث! سأجلب لك ماء لحظة! لكن الآخر منعه أمسك بذراعه وحدق في عينيه بصورة مباشرة! لا أريد ماء! فقط قل لي هل بك شىء! أأنت مريض! وجهك شاحب! هل أنت خائف!؟مسح العرق بذراعه عن جبينه وقال بضحكة منكسرة! لا لست خائفا! فقط تعب قليل! تعرف الطقس حار! قال هذا وأشار بأصابع مرتجفة نحو السماء! قال الآخر قبل أن  ينحني ويضع الكتاب من بين يديه!ألا تريد معرفة أخبار أهلك حقا!أمسك به من بين كتفيه وهزه متوسلا! ليس الآن قلت لك أرجوك! ثم وضع أصابعه على أذنيه وأخذ جسده يختض! طيب طيب! سأحضر غدا صباحا! فقط هدىء من روعك! ثم تراجع للخلف وهو يحدق فيه بدهشة! ما أن اختفى الآخر وغيبه شارع المتنبي حتى امتدت يداه تسابق إحداهما الأخرى! ولم تمضي لحظات حتى كانت بضاعته في العربة! كانت قدماه ترتجفان من تحته بشدة فيما اتسعت حدقتا عيناه وأدرك بأنه فعلا مريض! سار بسرعة دافعا بالعربة للامام فيما كان يلتفت مابين الحين والآخر! أفرغ ماتبقى لديه من كتب ثم عاد بالعربة وسلمها لمالكها!سار عائدا ودخل زقاقا ضيقا وأخذ يلتفت للخلف! ودخل عدة أزقة إلى أن شعر بالتعب وبالامان أخيرا! جلس في إحدى المقاهي الصغيرة! طلب شايا وأخذ ينظر يمينا وشمالا! أشعل سيجارة!شعر بالعار مما آلت إليه حالته! وتذكر أيام الرخاء! كان الآخر واحدا من بين آخرين ممن تنعموا بخيراته! تبا! أنا ميت! مرتعب! لا أريد أن أعرف ما جرى من بعدي! ينتابني شعور إن الأخبار سيئة! قلبي ضعيف! لن أتحمل! أشعر بأني فعلا جبان! بل إني أجبن أهل الأرض ربما! أمسك برأسه بين يديه! ثمة صداع عنيف! كأن أحدهم يدق بمطرقة في رأسي! هكذا همس لنفسه! نهض ودفع الحساب ثم سار عدة خطوات!شعر بأنه يود أن ينام! نوما طويلا! أوقف سيارة أجرة ثم توجه إلى شارع السعدون! إنه محاصر! مثل طائر حبيس! تبخرت كل الخطط والمشاريع من رأسه أخيرا! أوقف السيارة وقصد أحد الفنادق الرخيصة! استأجر غرفة! ثم سرعان ما رمى بنفسه على السرير وغط في نوم عميق! عندما استيقظ كان سابحا في عرقه!حدق في المروحة التي كانت تدور ببطء ثم أخذ يتصفح جدران الغرفة! شعر ببعض الراحة رغم ذلك! وفكر بأنه لم يتناول طعامه!كانت الساعة قد جاوزت الخامسة بعد العصر حينما هبط درجات السلم! هدأت نفسه بعض الشيء وأبعد عن ذهنه التفكير بالماضي وحاول قدر الإمكان زرع فكرة في رأسه بأن ما حصل لم يكن سوى سراب! مجرد حلم!أخذ يدندن فجأة ثم قرر أن ينسى الأمر! الآن يجب ان نفكر في عمل آخر! ليس بيع الكتب حتما! كانت معدته قد امتلأت تماما عندما خطرت في باله فكرة سرعان ما إبتسم لها وإن كانت بسمة ميتة! وهكذا استيقظ صباحا وهو يشعر بنشاط عجيب وهو يردد ليذهب كل شىء للجحيم! هبط مسرعا ثم تناول فطورا دسما! سار بخطوات واثقة غاب عنها الخوف وقد قرر أن يبيع السجائر وعلب المناديل الورقية في ساحة الطيران!هذه المرة!!وفي مكان بعيد نوعا ما كان الآخر يقف على رصيف  جسر الشهداء مستندا إلى الافريز وهو يتأمل طيور النوارس بأجنحتها المنفردة هامسا لنفسه! كنت أعرف أنه لن يأتي! كان واضحا في عينيه إنه رجل ميت! كان هاربا من الأيام!!!

 بقلم /
رعد الإمارة /
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق