السبت، 8 فبراير 2020

ج1من قصة {{أوجاع في ذلك الزقاق}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{ رعد الإمارة}}

(أوجاع في ذلك الزقاق)

كنت جالسا اطالع احدى قصص ارسين لوبين عندما مدت جدتي يديها بصينية الفطور ،رفعت رأسي ،كادت حافتها ان تصطدم بوجهي!لم تبالي بدهشتي،بل راحت ترمقني بعينيها الجاحظتين قبل أن تنتابها نوبة السعال المعتادة، أخذت أنقل بصري للحظات، بين وجهها المحمر، والصينية التي راحت تهتز اطباقها وتصدر أصواتا لا أول لها ولا آخر! قلت لها وأنا اقبض على طرفي الصينية الراقصة :
-مابالك ياجدة، هل أنت مريضة!. وضعت يدها على صدرها، راحت تسعل حتى ازداد احمرار وجهها، أشارت إلى ركبتيها وهي تهز رأسها المعصوب بلفافة سوداء جعلتها تبدو كحاكمة قرية افريقية، قالت :
-مفاصلي يابني، الوجع هنا وهنا -أشارت إلى صدرها -ثم جلست دفعة واحدة. هذا كله بسبب التدخين، قلت لها ذلك وأنا ادير الملعقة في ماتبقى من قدح الشاي،راحت تدلك ساقيها الواحدة تلو الأخرى، قالت وعينيها تتابعان حركة الملعقة :
-هل أصب لك المزيد،أم اجلب لك حليبا ساخنا!. حدقت فيها، في أعماق عينيها الغائمتين، فكرت لو أنها أحضرت الحليب وسكبته فوق رأسي،لو إن نوبة السعال عاودتها وهي تقدمه لي، يا إلهي! هززت رأسي رافضا بقوة حتى إن عنقي آلمني وانا أفعل ذلك، قلت لها ضاحكا :
-لماذا تصرين على إحضار الفطور بنفسك!؟لم أعد صغيرا ياجدتي، ثم إني لست جائعا. قالت وهي تدني عود الثقاب من سيجارة لا أعرف من أين ولاكيف أخرجتها :
-هذا شيء لايخصك، لقد وعدت أمك وابوك بالاعتناء بك، الوضع في المدينة ليس كمثل الريف عندكم ، عليك فقط الإهتمام بدروسك، أريدك دوما هكذا، تأكل وتقرأ في آن واحد كما تفعل الآن. كتمت ضحكة كبيرة في داخلي،آه لو أنها تعرف ماذا يقرأ حفيدها! لكن ماذا لو رأت صورة آرسين لوبين في الغلاف، أنه يحمل مسدسا، تبا، اطبقت الكتاب بسرعة وخبأته بخفة تحت فخذي. كانت عمتي قد استيقظت أخيرا، عرفت هذا من صوت ماكنة الخياطة الذي تناهى إلى سمعي، وكانت جدتي قد خرجت وهي تجر قدميها خلفها، توقفت عند غرفة عمتي، رفعت رأسها حينما شعرت بطولي يملأ فراغ الباب، ابتسمت بطريقة آلية ثم عادت تواصل عملها، اقتربت منها، تنحنحت، قالت وعينيها في طيات القماش المنشور أمامها :
-هل تناولت فطورك! أين أمي!؟ قلت لها وانا اداعب حافة الماكنة :
-إن جدتي مريضة، تسعل كثيرا، تشكو من المفاصل أيضا.  قالت عمتي دون أن تنظر في وجهي حتى :
-اهتم بدروسك،لقد مضت سنين عديدة وهي على هذا الحال، لاتحب الأطباء، مغرمة بالتدخين، لاتشغل بالك -رفعت وجهها فجأة -آه لو تعرف أنك مدمن على قراءة القصص البوليسية. استدرت بسرعة للخلف، اقتربت من عمتي، قلت :
-ستسمعك، اسكتي أرجوك، سأجلب لك المزيد من الحلوى التي تحبينها. هزت عمتي رأسها، لكنها سرعان ماقطبت حاجبيها وتنهدت بصوت مسموع ثم انكبت على ماكنتها.  رحت أردد مع نفسي وأنا ارتقي درجات السلم إلى سطح الدار، مسكينة عمتي، هي قد  لاتدري بلقب العانس الذي اسمع جدتي تصفها به مابين الحين والآخر، لكن تبا، هي مازالت جميلة، بل شديدة الجمال!. مددت رأسي من فوق السور، كان شارعنا هادئا تماما، حتما أغلب الجيران مازالو نائمين! وحدها دارنا التي يستيقظ أهلها مبكرين، وقد يكون سعال جدتي هو السبب! رحت امشي جيئة وذهابا، أغمضت عيني وانا أفعل ذلك، تحولت فجأة إلى شخص آخر، أخذ قلبي يدق بشدة، كانت الفكرة قد اختمرت في رأسي ولم يعد ثمة مجال للنكوص عنها ابدا، شعرت بالتعب وانا اقطع ساحة السطح الواسعة كالمجنون، جلست في إحدى الزوايا، رحت أدرس الموضوع مرة أخرى من كل الجوانب،كان هذا دأبي منذ أيام مضت، ثمة حلقة واحدة فقط ظلت مفقودة وهي، متى يكون بيت الجيران خاليا من ساكنيه!، فمن غير المعقول أن اتسلل في وجودهم. أنهيت قصة لوبين اللص، اطبقت الكتاب الصغير ثم تنهدت، شعرت بالعطش، حاولت التحديق في أشعة الشمس لكني أصبت بالخيبة والدوار!تحاملت على نفسي ونهضت، التفت للخلف ونفضت التراب عن مؤخرتي، حدقت مرة أخرى من فوق السور، بعض الأطفال يعبثون بمجرى الساقية الفاصل بين البيوت، وثمة آخرون  يتهيئون للعب الكرة، أن يوم الجمعة عادة مايختلف عن سواه من الأيام. قبل أن اهبط تناهى إلى سمعي صوت عمتي، كانت تتحدث مع جدتي حول وجبة الغداء المعتادة، تسللت من خلف جدتي بعد أن منحت عمتي غمزة مجانية ،راحت تضحك فجأة،فيما راحت جدتي تهز يدها يمنة ويسرة، وكأنها تقول، أخيرا جنت البنت! خبأت الكتاب في دولابي الصغير المركون في إحدى زوايا غرفة الضيوف الكبيرة، احتضنت جدتي برفق من الخلف،رحت اقبلها واشم فيها رائحة البخور والتبغ، حاولت الإفلات من قبضتي وهي تتصنع الغضب، قلت لها :
-أرجوك فقط هذه المرة، انظري الطقس حار جدا، سأكون عاقلا اعدك ولن اتأخر.  هزت رأسها علامة الرفض الشديد،طلبت من عمتي التدخل بأشارة توسل من فمي، فقد أرسلت لها قبلة هذه المرة، لا أعرف ماالذي جعل وجه عمتي يحمر بهذه الصورة،ربما تكون حركتي هذه قد ذكرتها بشخص من الماضي! تقدمت عمتي خطوة للأمام، قالت وعيناها تكادان تخترقان وجه الجدة الصارم :
-دعيه يسبح مع رفاقه، لقد أصبح رجلا يا أمي، حرصك الزائد سيحوله إلى إمرأة محبوسة بين أربع جدران! سيصبح قريبا مثلي، لكن ليس أجمل مني طبعا.  خيل لي بأني شاهدت عيني عمتي تلمعان وهي تنطق بعبارتها الأخيرة قبل أن تطوح بيديها الاثنتين وتستدير صوب غرفتها وهي تضحك مثل المجانين. رحت أحوم حول غرفة جدتي العنيدة، كانت تسعل كعادتها، فتحت البراد في غرفة الضيوف، تذكرت بأني عطشان، شربت بعض الماء البارد ثم ملأت قدحا كبيرا وهرعت به صوب جدتي، التي راحت تهز رأسها وهي تراني أضعه بين يديها،قالت ورذاذ الماء يتطاير من بين شفتيها :
-هذه المرة فقط، وياويلك إن تأخرت، سأراقب الساعة.  كتمت ضحكتي وانا احتضن رأسها، قلت :
-تذكري ياجدة، أنا من علمك حفظ الوقت وأرقام الساعة. انتفضت جدتي وابعدت جسدي بيديها، جريت من أمامها  مسرعا قبل أن تغير رأيها، فيما كان صوت الماكنة في غرفة عمتي يطغى على صوت خطواتي المسرعة. كان أغلب من أعرفهم من أصحابي قد توجهوا صوب النهر الواقع خلف بيوتنا، عرفت ذلك من طفل الجيران الصغير ذو الثياب النظيفة، والذي كان يجلس على حافة عتبة دارهم الملاصقة لبيت جدتي،قلت له وانا أنقل اقدامي ببطء ،ألا تود التفرج، ستكون هناك مسابقة في العوم!  هز رأسه بسرعة ثم نظر للخلف، كانت شقيقته التي تماثلني في السن قد جمعت شعرها بضفيرة واحدة شقراء خلف ظهرها، راحت تحدق في وقد ملأ جسدها الرشيق فراغ الباب،واصلت النظر في وجهي بتحد غريب وكأنها تقول، أغرب ياوجه البومة! مشيت وأنا أتلفت للخلف، كانت ماتزال تنظر صوبي، رأيتها تنحني ثم تهمس بشيء لشقيقها، قبل أن استدير خيل لي بأنهما كانا يضحكان بوتيرة متصاعدة، هززت كتفي وأنا اواصل المشي بسرعة واهمس، سنرى ياشقراء! (انتهى الجزء الأول 😡يتبع )

بقلم /رعد الإمارة /العراق 
6/2/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق