الأربعاء، 14 سبتمبر 2022

قصة قصيرة بعنوان{{جونِيِة واحِدٌ}} بقلم الكاتبة والقاصّة الفلسطينية القديرة الاستاذة {{ عبير محمود أَبو عيد}}


 ذِكرَياتٌ لًبنانِيَّةٌ : حَيفا – جونِيِة واحِدٌ.
بقلم الأديبة : عبير محمود أبو عيد. فلسطين - القدس
سافَرَتْ عُلا مَعَ والِديها إِلى لُبنانَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ. كانَتْ تَسمَعُ أَنَّ لُبنانَ يُلَقَّبُ بِسويسرا الشَّرقِ، وَكانَتْ مُتَشَوِّقَةً لِتَعرِفَ السَّبَبَ.
وَوَصَلَتْ عًلا إِلى بَيروتَ العاصِمَةِ وَسِتِ الدُّنيا وَأُمُّ الشَّرائعِ كَما يُسَمّيها البَعضُ. وَكانَتْ في حالَةِ ذُهولٍ وَاستِغرابٍ، فَالحَرَكَةُ هُنا لا تَهدَأُ وَالسّاعَةُ قَدْ جاوَزَتْ الثّانِيَةَ عَشرَةَ صَباحًا بِقَليلٍ.
- والِدي الحَبيبُ، أَلا يَنامُ أُهلُ بَيروتَ؟ هذِهِ الضَّجَةُ العالِيَةُ لَنْ تَجعَلَني أَنامُ لَيلَتي.
- عُلا يا بنَتي الغالِيَةُ، نَحنُ في شَهرِ حَزيرانَ، وَقَدْ بَدَأَتْ أَشهُرُ الصَّيفِ الحارَّةِ هُنا. إِنَّ نِسبَةَ الرُّطوبَةِ عالِيَةٌ، لِذلِكَ أهالي بَيروتَ يَنامونَ بَعدَ الظُّهرِ وَيَستَيقِظونَ في اللَّيلِ. سَتَرَيْ ذلِكَ بِنَفسِكِ، فَما أَجمَلَ فَصلَ الصَّيفِ في القُدسِ مُقارَنَةً بِصَيفِ بَيروتَ!
وَبَعدَ أَيّامٍ قَليلَةٍ، زارَتْ عًلا مَعَ ابنَةَ عَمَّتِها ربابُ الجامِعاتِ اللُّبنانِيَّةَ الّتي لَها عَلاقَةٌ بِالآدابِ وَالفُنونِ كالرَّسمِ وَالموسيقا وَالنَّحتِ مِثلَ جامِعَةِ القِدّيسِ يوسُفَ وَجامِعَةِ بَيروتٍ العَرَبِيَّةَ وَالجامِعَةِ اللُّبنانِيَّةَ. ثُمَّ زارَتِ الرَّوشَةَ وَشاهَدَتْ صَخرَةَ الانتِحارِهُناكَ، وَعَلِمَتْ أَنَّها سُمِّيَتْ بِهذا الاسمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخصٍ كانَ يَفشَلُ في الحُبِّ كانَ يَتَسَلَّقُ الصَّخرَةَ وَيَرمي بِنَفسِهِ نَحوَ البَحرِ وَيَموتُ مُنتَحِرًا.
وِاشتَرَتْ عُلا مَلابِسَ لَها مِنْ سوقَيْ سُرسُقَ والطَّويلَةِ حَيثُ مُختَلَفِ البَضائِعِ الجَميلَةِ وَالأَنيقَةِ. وَزارَتْ أَيضًا كورنيشَ المَزرَعَةِ وَالمُصَيطبَةَ وَبُرجَ حَمودٍ وَسِنَّ الفيلِ وَالأَشرَفِيَّةَ وَعَينَ الرُّمانَةِ. أَمّا شارِعُ الحَمرا، فَهُوَ آيَةٌ مِنَ الرَّوعَةِ وَالجَمالِ، وَلَكِنَّها تَضايَقَتْ مِنْ كَثرَةِ الحاناتِ والباراتِ في هذا الشّارِعِ، وَهُوَ ما يُسئُ لِسُمعَةِ أَهلِ البَلَدِ. وَأُعجِبَتْ عُلا بِالثَّقافَةِ العالِيَةِ الّتي يَتَمَتَّعُ بِها أَهلُ لُبنانَ، وَخُصوصًا الإِناثِ اللّواتي يُقبِلنَ عَلى التَّعليمِ وَمُمارَسَةِ مُختَلَفِ أَنواعِ الرِّياضَةِ كَالرَّكضِ وَرُكوبِ الدَّراجاتِ وَالسِّباحَةِ وَالتَّزَلُجِ عَلى الماءِ.
وَأَخَذَها والِدَاها لِزِيارَةِ مَغارَةِ جَعيتا في مَدينَةِ جونِيَةِ. وَقَدْ أُعجِبَتْ عُلا بِالمَغارَةِ الّتي رَأَتها آيَةً مِنَ الجَمالِ الرَّبانِيِّ، فَالثُّلوجُ تُشَكِّلُ هَوابِطَ جَميلَةً يَعجَزُ اللِّسانُ عَن وَصفِها، ثُمَّ رَكِبَت عُلا تَل فريك المَوجودُ في مَدينَةِ جونِيَةِ أَيضًا.
- انظُري يا عُلا، نَحنُ الآنَ قُربَ البَحرِ، وَبَعدَ نِصفِ ساعَةٍ فَقَطْ سَتَتَّجِهُ بِنا عَرَبَةُ تَلِّ فريكِ فَوقَ مَدينَةِ جونِيَةَ ثُمَّ فَوقَ غاباتِ الأَرزِ لِنَصِلَ إِلى مَكانٍ جَبَلِيٍّ عالٍ، ثُمَّ نَصعَدُ بِالتَّرامِ إِلى كَنيسَةِ سَيِّدةِ حَريصا.
- لَقَد وَصَلنا يا أَبي. انظُرِ البَحرَ يَبدو مِنْ هُنا كَنُقطَةٍ صَغيرَةٍ، وَهذِهِ مَدينَةُ جونِيَةُ تَحتَنا. يا اللهُ ما أَجمَلَ هذا المَكانِ! وَما أَجمَلَ الطَّبيعَةَ هُنا! لَمْ أُشاهِدْ في حَياتي جَمالًا كَهذا الجَمالِ إِلّا أَنَّ المَسجِدَ الأَقصى وَقُبَّةَ الصَّخرَةِ أَجمَلَ بِكَثيرٍ. هَلْ تَعرِفُ يا والِدي أَنَني اشتَقتُ لِلقُدسِ وَلِلأَقصى كَثيرًا جِدًّا؟
- عُلا، ما المَكانُ في فِلَسطينَ وَالَّذي يُشبِهُ هذا المَكانَ؟
- نَعَم يا أُمي، إِنَّها مَدينَةُ حَيفا الجَميلَةُ. أَشعُرُ وَكَأَنَّني الآنَ عَلى سَفحِ جَبَلِ الكَرمِلِ. إِنَّ البَحرَ الأَبيَضَ المُتَوَسِّطَ يَجعَلُ مِن حَيفا وَجونِيَةَ تَوأَمٌ لا فَرقَ بَينَهُما. إِنَّها عَظَمَةُ الخالِقِ جَلَّت قُدرَتُهُ.
وَزارَتْ عُلا مَعَ والِديها ضَيعَةً في الجَبَلِ اسمُها غوسطا، وَتَناوَلَتْ طَعامَ الفَطورِ هُناكَ، وَالّذي يُسَمّى بِالتَّرويقَةِ : خُبزُ التَّنورِ وَلَبَنَةُ زَحلَةِ وَجُبنَةُ حَلّومٍ وَالشانكليشُ وَالجُبنَةُ المُجَدَّلَةُ وَمَناقيشُ الزَّعتَرِ. وَشاهَدَتْ عُلا مَدينَةَ الشَّمسِ بَعَلَبَكَّ، وَحَضَرَتْ حَفلَةً لِلمُطرِبَةِ المَشهورَةِ فَيروزَ.
وَلا بُدَّ لِعُلا أَنْ تَزورَ مَدينَةَ طَرابُلُسَ ميناءُ لُبنانَ الجَميلِ. وَهُناكَ أَكَلَتْ السَّمَكَ الشَّهِيَ وَالحَلوى عَلى مُختَلَفِ أَنواعِها وَمِنها : زُنودُ السِتِّ وَالبِقلاوَةِ. وَزارَتْ مَدينَةَ إِهدِنَ وَتَقَعُ في الشَّمالِ عَلى الحُدودِ مَعَ سورِيّا في جِبالِ لُبنانَ الجَميلَةِ المُغَطّاةِ بِشَجَرِ الأَرزِ.
وَعادَتْ عُلا لِوَطَنِها الأُمِّ فِلَسطينَ وَلِمَعشوقَتِها القُدسُ الحَبيبَةُ، وَهِيَ تَحمِلُ الذِّكرَياتِ الجَميلَةِ عَنْ بَلَدِها الثّاني : لُبنانَ. وَتَحلُمُ عُلا في كُلِّ سَنَةٍ أَنْ تَزورَ لُبنانَ فَرُبَّما يُصبِحُ الحُلُمُ حَقيقَةً في يَومٍ مِنَ الأَيّامِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق