بَسمَةُ الحُزنِ.
بقلم الأديبة والشاعرة : عبير محمود أبو عيد. فِلَسطين - القدس.
تَعيشُ إِلهامُ مَعَ أَخيها مَحمودٍ لِوَحدِهِما، فَهُما مَقطوعانِ مِنْ شَجَرَةٍ كَما يُقالُ. يَعمَلُ مَحمودٌ في بَقّالَةٍ قَريبَةٍ مِنَ البَيتِ، وَأَمّا إِلهامُ، فَقَدْ تَخَرَّجَتْ مِنَ الجامِعَةِ حَديثًا.
- محمودٌ، بارِكْ لي فَأَنا سَأَشتَغِلُ مُعَلِّمَةً في مَدرَسَةِ الحَياةِ الجَديدَةِ. هِيَ مَدرَسَةٌ خاصَّةٌ، والحَمدُ للهِ قَريبَةٌ مِنْ بَيتِنا، فَأَنا لا أَحتاجُ لِدَفعِ ثَمِنِ المُواصَلاتِ.
- وَفَقَكِ اللهُ يا إِلهامُ يا أُختِيَ الغالِيَةَ. أَنتِ سَتَكونينَ نِعمَ المُعَلِّمَةِ لِلطّالِباتِ وَلِلطُلّابِ.
وَعَمِلَتْ إِلهامُ في المَدرَسَةِ كَمُعَلِّمَةٍ لِمادَّةِ التَّربِيَةِ الإِسلامِيَّةِ حَسبَ تَخَصُصِها. وَفي فَترَةٍ زَمَنِيَّةٍ قَصيرَةٍ، كانَتْ مَحَطَّ إِعجابِ زَميلاتِها المُعَلِّماتِ وَالطّالِباتِ وَالطُّلابِ وَكَذلِكَ المَديرَةُ. هِيَ تَعمَلُ بِكُلَّ جِدٍّ وَاجتِهادٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ عَلى أَكثَرِ مِنْ شَهادَةِ تَقديرٍ مِنْ وِزارَةِ التَّربِيَةِ وَالتَّعليمِ، كَما حَصَلَتْ عَلى دِرعِ المُعَلِّمَةِ المِثالِيَّةِ مِنَ الإِدارَةِ، وَكَذَلِكَ عَلى دِرعٍ مِنَ الاتِحادِ النِّسائِيِّ.
وَفي يَومٍ مِنْ أَيّامِ الخَريفِ، أَحَسَّتْ إِلهامُ بِضيقٍ في حَلقِها بَدَأَ يَشتَدُّ يَومًا بَعدَ يَومٍ.
- إِلهامُ، يا زَميلَتي، يَجِبُ أَنْ تَذهَبي إِلى الطَّبيبِ، فَأَنا أَراكِ مُتعَبَةً جِدًّا. كَما أَنَّ صَوتَكِ بَدَأَ يَختَلِفُ. سَأَذهَبُ مَعَكِ اليَومَ بَعدَ الدَّوامِ إِلى الطَّبيبِ. ما رَأْيُكِ؟
- لا يا زَميلَتي الغالِيَةَ ياسَمينُ، فَأَنا بِخَيرٍ. سَأَذهَبُ غَدًا الأَحَدَ إِلى الطَّبيبِ، أَعِدُكِ بِذلِكَ، فَغَدًا المَدرَسَةُ عُطلَةٌ.
وَذَهَبَتْ إِلهامُ لِوَحدِها لِلطَّبيبِ الّذي اهتَمَّ بِها كَثيرًا، وَأَجرى لَها فَحصًا كامِلًا، وَكَذلِكَ صورَةَ أَشِعَّةٍ لِلحَنجَرَةِ بِالإِضافَةِ إِلى الصُّورَةِ الطَّبَقِيَّةِ لَها.
- إِلهامُ، يا بنَتي، أَنتِ مُعَلِّمَةُ تَربِيَةٍ إِسلامِيَّةٍ، وَأَنا كَطَبيبٍ لا أُخفي عَلَيكِ شَيئًا. أَنتِ مُصابَةٌ بِوَرَمٍ سَرَطانِيٍّ خَطيرٍ في الحَنجَرَةِ، وَيَجِبُ أَنْ تَذهَبي لِلمَشفى بِأَقصى سُرعَةٍ. هُناكَ عَمَلِيَّةٌ خَطيرَةٌ تَنتَظِرُكِ، وَبَعدَها سَتَفقِدي صَوتَكِ تَدريجِيًّا، أَمّا المَوتُ والحَياةُ، فَهُما بِيَدِ اللهِ تَعالى.
وَخَرَجَتْ إِلهامُ مِنْ عِندِ الطَّبيبِ وَدُموعُها تَملَأُ قَلبَها الحَزينُ، وَلَمْ تَنَمْ طَوالَ اللَّيلِ. وَفي الصَّباحِ، ذَهَبَتْ إِلى المَدرَسَةِ باكِرًا وَدَخَلَتْ غُرفَةَ المُديرَةِ بِسُرعَةٍ.
- السَّلامُ عَلَيكُمْ يا حَضرَةَ المُديرَةِ. إِنَّني أُقَدِّمُ استِقالَتي لِأَنَّني غَيرُ مُرتاحَةٍ في العَمَلِ مَعَكُمْ. لَقَدْ وَجَدتُ مَدرَسَةً ثانِيَةً سَتُعطيني مَعاشًا أَكثَرَ بِكَثيرٍ مِمّا آخُذُهُ هُنا مَعَ خَفضِ الحِصَصِ الأُسبوعِيَةِ وَساعاتِ الدَّوامِ.
- ماذا تَقولينَ يا إِلهامُ؟ هَلْ أَنتِ في كامِلِ قُواكِ العَقلِيَّةِ؟ نَحنُ لا نَستَغني عَنكِ وَلَنْ نَقبَلَ استِقالَتَكِ.
- أَنتِ حُرَّةٌ يا حَضرَةَ المُديرَةِ وَهذِهِ الاستِقالَةُ مَعَكِ فافعَلي ما تَشائينَ. لا أُريدُ أَحَدًا أَنْ يَعرِفَ ماذا حَصَلَ إِلّا بَعدَ خُروجي مِنَ المَدرَسَةِ.
وَخَرَجَتْ إِلهامُ مِنَ المَدرَسَةِ، وَأَسرَعَتْ نَحوَ سَيّارَتِها مُحاوِلَةً إِخفاءَ دُموعِها وَعادَتْ لِلبَيتِ وَهِيَ تَبكي. حَضَّرَتْ حَقيبَتَها وَذَهَبَتْ لِلمَشفى وَلَمْ تُخبِرْ أَخاها بِالأَمرِ.
عادَ أَخوها مِنَ العَمَلِ وَلَمْ يَجِدها. رُبَّما ذَهَبَتْ مَعَ إِحدى صَديقاتِها إِلى السّوقِ. وَحَلَّ المَساءُ وَإِلهامُ لَمْ تَعُدْ لِلبَيتِ. سَأَلَ عَنها أَخوها صَديقَتَها ياسَمينُ، فَأَخبَرَتهُ بِمَوضوعِ الاستِقالَةِ.
وَفي اليَومِ التّالي، دَخَلَتْ إِلهامُ غُرفَةَ العَمَلِيّاتِ حامِلَةً صورَةَ أَخيها مَحمودٍ، وَطَلَبَتْ مِنْ أَخِصّائِيِّ التَّخديرِ أَنْ يَضَعَ صورَةَ أَخيها أَمامَ سَريرِها. تَمَّتِ العَمَلِيَّةُ، وَفَقَدَتْ إِلهامُ صَوتَها بَعدَ يَومَينِ مَنَ العَمَلِيَّةِ، وَبَدَأَتْ حالَتَها تَزدادُ سوءًا. كانَتْ تَقضي لَيالِيَ الشِّتاءِ البارِدَةِ في أَلَمٍ وَوَجَعٍ مُتَواصِلَينِ، وَتَطلُبُ مِنَ المُمَرِّضاتِ عَدَمَ الاتِصالِ بِأَخيها أَوْ بِزَميلاتِها أَوْ بِالمُديرَةِ.
وَفي "يَومِ الأُمِّ", استَيقَظَتْ إِلهامُ باكِرًا، وَتَذَكَّرَتْ أَخاها مَحمودُ الّذي كانَ يُهديها في هذا اليَومِ باقَةً مِنَ الوَردِ الأَحمَرِ الجورِيِّ وَبَكَتْ كَثيرًا. طَلَبَتْ وَرَقَةً وَقَلَمًا وَكَتَبَتْ ما يَلي :
أَخي الغالي مَحمودٌ .....
حَضرَةُ المُديرَةِ الفاضِلَةِ .....
زَميلاتي الغالِياتِ .....
طالِباتي وَطُلّابي الأَعِزّاءُ .....
هِيَ الأَقدارُ سَتَأْخُذُني لِلسَّماءِ بَعدَ أَيّامٍ أَوْ رُبَّما أَشهُرٍ قَليلَةٍ. لا أَطلُبُ مِنكُمْ شَيئًا سِوى أَنْ تَذكُروني في يَومِ الأُمِّ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَأَنْ تَزوروا قَبري وَتَضَعوا عَلَيهِ الوَردَ الأَحمَرَ الجورِيَّ الّذي أُحِبُّهُ كَثيرًا.
وَبَعدَ أَقَلَّ مِنْ أُسبوعٍ، تُوُفِّيَتْ إِلهامُ وَأَخَذَتِ المُمَرِّضَةُ الرِّسالَةَ الّتي كَتَبَتها وَأَوصَلَتها لِأَخيها. قَرَأَ أَخوها الرَّسالَةَ في نَفسِ اليَومِ أَمامَ المُديرَةِ وَكُلِّ المَدرَسَةِ، الّذين بَكوا بِدُموعٍ غَزيرَةٍ عَلى فَقدِ المُعَلِّمَةِ إِلهامٍ.
وَاعتادَ مَحمودٌ في عَصرِ كُلِّ يَومِ خَميسٍ شِراءَ باقَةٍ مِنَ الوَردِ الأَحمَرِ الجورِيِّ واضِعًا إِيّاهُ عَلى قَبرِ أُختِهِ. كانَ يَبكي بِحُرقَةٍ وَيَقول : "إِلهامُ، أَنتِ بَسمَةُ الحُزنِ الّتي انطَفَأَتْ باكِرًأ. لِمَنْ تَرَكتيني وَحيدًا يا مُهجَةَ الروحِ؟ أَيَّتُها السَّماءُ أَوصِلي قُبُلاتي لِإِلهامٍ وَقولي لَها سَتَظَلّينَ في فُؤادِ مَحمودٍ لِلأَبَدِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق