السبت، 7 ديسمبر 2024

قصة قصيرة تحت عنوان{{عزيز الروح}} بقلم الكاتب القاصّ اللبناني القدير الأستاذ{{ربيع دهام}}


 (عزيز الروح / ربيع دهام/ قصة قصيرة)

شادي بأمسّ الحاجة إلى وظيفة. لا بأس.
أي شيءٍ يبقى أفضل له من دبيب الحرمان المدقِع.
قد مرّت أيّامٌ، يقول عنها "أيام الخصب"، كانت فيها الوظيفة،
هي التي تبحث عن الإنسان لا العكس.
زمنٌ فيّاضٌ هو، لكنه كفروة الرأس، بمرور العمر تقرَّع.
"يوم لك ويوم عليك"، راح يروّض شادي مخاوفه المستعرة.
و"إنما الدنيا دولاب".
و"كلما أغلِق بوجهك باب، فُتح أمامك بابٌ آخر".
وظلَّ شادي على هذه الحال وهو يلفُّ ويدور من مكان إلى مكان،
ومن دكّان لدكّان.
يفتح باب شركة. يخرج من باب مصرف.  يسأل هذا. ينتظر جواب ذاك. يستعرض سيرته الذاتيّة.
يحكي عن تخصّصه. عن خبراته. أين كان يعمل وفي أي مجال.
لم يكن أبداً ليخجل بإشهار حاجته الماسّة للوظيفة وللعمل.
ولماذا يخجل؟
فـ"الفقر موتٌ بطيءٌ، لكنه أرحم على النفس من مهانة التسوّل".
هذا ما كان يردّده والده أمامه دوماً. وهذا ما تشرّبه منه وهو طفلٌ.
والده؟ آهٍ منه. قد زرع في معموديّة ابنه بذور قيمٍ، حسبها الولدُ
طريقاً منيراً لورودٍ مقبِلة.
لكن كيف لهذا الولد أن يدرك، بأنّ البذور تبقى بذوراً في زمن المكارم المخصيّة.
والأحلام، مهما في درجات الرقي عَلتْ، تبقى في مجتمعات التحنيط، ورقيّة.
وظلَّ شادي، ذاك المجتهد الحزين، كمن يدور في آتون صحراء، يفتّش عن
واحة ماء، ولا يجد.
ولمّا أنهكه التعب، اقتعد بنكاً خشبيّاً.
وكان منهك الجسد والروح.
مسح عرق التعب عن جبينه، فتفصّد جبينه بعرقٍ آخر.
أهو عرق الخيبة؟
مسحه ثانيةً. ثم ثالثةً. لكن جبينه ظلّ ينزف.
ولمّا تعبت يداه من المسحِ، استسلم للنزف المحتوم.
فكّر بوالده. ذاك المريض بداء السكّري، وبما سيحصل له،
لو أنه لم يجرِ سريعاً عمليّة زرع كلية.
خاف من قفد أبيه. من موته.
قد حاول لأيام، ولشهور، البحث عن وظيفة، لكن دون طائل.
فكّر بابن عمّه جاد، المغترب الثري في الغابون، والذي ما ربطت بينهما
علاقة يوماً إلا علاقة الدم.
لكن، ألا تكفي علاقة الدم؟
والده في خطرٍ وجودي، وابن عمّه قريبه لا بُدَّ أن يستجيب.
وراحت تتصارع وتتضارب وتتزاحم في دواخل نفسه الأفكار.
"الفقر موتٌ بطيءٌ. لكنه أرحم على النفس من مهانة التسوّل".
لكن أيضاً والده في خطر، والموت مصيره لو أنه تقاعس عن إجراء العمليّة
له.
أفلا يفعل هذا لأجل أبيه؟
أفلا يتنازل عن كبريائه قليلاً؟
تردّد شادي، عاند، قاوم عزّة نفسه اللعينة، لكنه أخيراً قرّر.
حمل جوّاله واتّصل.
ولم يطل الحديث بينه وبين ابن عمّه لأكثر من عدة دقائق، قبل أن يقفل شادي الخطّ، مكفهرّ الوجه، عابس السحنة، ودامع العبرات.
يكاد يتمنّى أن تنشق الدنيا وتبلعه.
بيده المرتجفة، وعينيه الجاحظتين، ركن الجوّال على البنك الخشبي،
زفر كمن يطلق من أحشائه قنابل من نارٍ، ثم، وبحركة تشبه هدوء الطفل
وهو يستكين لنومٍ عميق، حنى رأسه وغرق.
غرق في حزنٍ عميق. أحس بالبكاء، لكنه أبى في لحظاته التعيسة هذه أن يبكي. أن يدمع. أن يطلب من الزمان شيئاً.
كانت تنهشه أصابع الوحدة القاتلة. كانت تقطّعه أنياب الزمن القحط.
وكان يعرف هو السبب. سبب رفضهم له.
نعم، كان يعرف. لكنه، وعلى قاعدة "ما قتلتني الرصاصة بل هوية مطلقها"،
أبى أن يشتكي.
كان أبوه  كاتباً معروفاً ذي مواقف معادية للكيان.
وكان يكتب ضد التطبيع وضد الطائفيّة.  وكان يناصر المقاومة.
ولهذه الأسباب، لم يعد يجد جريدةً يكتب فيها مقالاته، ولا دار نشرٍ تطبع مخطوطاته وتوزّعها.
أكان منسوب السكّر المرتفع بالدم هو داء أبيه؟ أم أنها مرارة الخيبة العالية
هي التي أضعفته، وجعلت خلايا جسده تجهش، من فرط الألم والخذلان؟
وحيداً جلس شادي على ذاك البنك الخشبيٍّ الفسيح.
ووحيداً كان في هذا الزمن الأقرع.
قد رفضته مولات العولمة، ومعامل الخوف، ودكاكين الجهل.
الكل عاداه وتخلّى عنه، أللهم إلا هواءاً حرّاً، لم يوضّبوه ويبيعوه بعلبٍ،عليها اسم شركاتٍ بعد، راح يصفع خدّيه.
أنعشه الهواء قليلاً.
مدّ ذراعيه، فتح كفيّه، ثم رمقهما بنظرةٍ مكسورة.
لم يبقَ في راحتيه العاريتين تلك إلا البذور.
حزن شادي، لكنه أبى أن يرفع لوحش الزمان رايته البيضاء.
ورغم الألم، ورغم الخوف، ورغم مرارة الخيبة، قرّر.
أخيراً قرّر.
وكان القرار مرّاً لكنه يبقى أقل مرارة من الذل.
إذا كان لا بدّ من رحيل أبيه، فليرحل من دنياه، كما أتاها، عزيز النفس والروح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق