الجمعة، 18 أبريل 2025

نص نثري تحت عنوان{{ميراثُ جدّي}} بقلم الكاتبة الفلسطينية القديرة الأستاذة{{دنيا محمد}}


"ميراثُ جدّي"

غرسَ جَدّي في الترابِ وصاياه،
لا سنابلَ فقط،
بل نَفَسَ الأرضِ حين تُجَرَّح،
وصوتَ الغيمِ إذا تلعثمَ فوقَ الحقول.

كان إذا حرثَ،
شقَّ قلبَه قبل التربة،
لينمو الزرعُ في ذاكرةِ العطش،
لا فقط في مواسمِ الرّي.

تركَ لي
مفتاحَ الحظيرة،
لا ليفتحَ باباً،
بل ليفتحَ وعياً،
لأن الأبوابَ تُصنعُ من الإرادة،
لا من الخشب.

على الجدارِ
علَّقَ معطفه بجوارِ المحراث،
كأنما البردُ لا يُهزمُ بالصوف،
بل بالعمل،
وكأنما الجوعُ لا يُرهبُ من يشبعُ بالكرامة.

وفي الزاويةِ الأخرى
كان ثوبُ جدّتي المزركشُ بنقوشِ السنابل
يتدلّى كرايةٍ منسوجةٍ بصبرِ المواسم،
تدورُ الرحى بين يديها
كما لو أنّها تطحنُ عمرها،
وتعجنُ الأيامَ بملحِ الذاكرة،
وحين يخرج خبزُ الحطب من تنورِها،
يعمُّ البيتَ دفءٌ
لا تصنعهُ المدنية.

ورثتُ منه
الجاروشةَ،
تدورُ ببطءٍ كساعةِ الصابرين،
تطحنُ القمحَ… والذاكرة،
حتى إذا امتدَّ رغيفي،
امتلأتُ بخبزٍ فيه ملوحةُ الدموع.

علّمني
أن الشجرةَ تورقُ كي تتذكّر،
لا لتُبهج،
وأن الجذورَ لا تسكنُ التراب،
بل تحفرُ فيه سيرةَ البقاء.

قال لي:
"لا تثقْ بثمرٍ لم يسقطْ من تعب،
فما يأتي بلا مشقة،
قد يغادرك دون وداع."

في بستانه
كلُّ حجرٍ حارس،
وكلُّ طريقٍ قصيدة،
وكلُّ ظلٍّ مقاومةٌ مؤقتة
لشمسٍ لا تعرف الرحمة.

وفي سلّتِه
لا عنبَ، لا تين،
بل صبرٌ جافّ،
وسُتراتٌ من غبارِ الزمن،
ونبضاتُ حنينٍ خُزنتْ
في أقاصي الذاكرة؛
حيث لا يكسرها زمن،
ولا يسرقها النسيان.

جدّي لم يكن فلاحًا فقط،
كان نبيًّا يزرعُ الغيمَ،
ويحصدُ الدلالة،
يبذرُ الجوعَ على هيئةِ سؤال،
ويُطعِمُنا من يَقينِه.

وحين مات،
لم ندفنهُ،
بل رتبناهُ كخريطةٍ
في أعيننا،
لكي لا نُضَيِّع الطريق.

بقلم دنيا محمد 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق