السبت، 23 أغسطس 2025

نص نثري تحت عنوان{{قارئةُ الفنجان}} بقلم الكاتب الفلسطيني القدير الأستاذ{{صفوح صادق}}


 "" قارئةُ الفنجان """

في مساءٍ بعيدٍ
رأيتُ فنجان قهوةٍ
مهجورًا فوق طاولةٍ من غبار،
يسألني عن ليلٍ طويل
تضاجع فيه الأحلامُ رمادها
وتسقط المدنُ في شقوق الصمت.
وعند الفجر...
نهضت غزة قبل رعشة الجنون،
تعدُّ شهداءها،
وتزرع أسماءهم في ترابٍ
لم يتوقف عن النزف.
في النهارات الصاخبة
رأيتُ طفلاً يركض على رصيف الموت،
بيده رغيفٌ أصغر من جوعه،
وأكبر من العالم.
سقط،
فتناثرت حروفُ الخبز
كأنها أجنحةٌ بيضاء
تطير في سماءٍ لا تعرف غير البارود.
قارئةُ الفنجان قالت لي:
هنا وطنٌ يفتش عن رغيف،
عن شمسٍ بلا حصار،
عن بحرٍ لا تبتلعه البوارج.
وأنا...
لم أرَ شيئًا
سوى غزة،
تمشي عاريةً من النوم،
تحمل على كتفيها رغيف الخبز
وقافلة الشهداء.
في الأزقةِ
تختبئ الأرواحُ خلف جدرانٍ متصدعة،
كأنّ البيوتَ تحفظ ذاكرةَ الزلازل،
كأنّ النوافذَ تصرخُ ولا يراها أحد.
طفلةٌ تبحثُ عن دميتها
بين ركامٍ يعلو على ركام،
وأمٌّ تفتّشُ عن قلبها
في كفنٍ أبيض
يحملُ ملامحَ صغيرها.
غزةُ...
مدينةٌ تصحو كل يومٍ
على صفارات الموت،
تغسلُ وجهها بالدمع،
وتكحّل عينيها برمادٍ أسود،
ثم تفتح أبوابها للريح.
يا قارئة الفنجان،
ماذا تقولين عن وطنٍ
يحملُ في كفّه مفاتيحَ قديمة
وفي كفّه الأخرى حجرًا؟
عن أمهاتٍ
يطرزن بالكوفية
أنشودةَ الفقد،
ويغنين في جنازاتٍ لا تنتهي؟
هنا،
لا شيء يشبه الحياة
إلا عنادُ الأطفال،
ولا شيء يشبه الفرح
إلا رغيفٌ يوزَّع
كالأحلام الصغيرة
بين حصارين.
وأنا،
حين نظرتُ في الفنجان،
لم أرَ إلا فلسطين...
غزّةَ،
تسكنني كجرحٍ
وتكبرُ كأملٍ
لا يموت.
وها هو البحرُ،
يراقب غزة من بعيد،
مكبلًا بالسفنِ والبارود،
لكنه لا يكفّ عن الغناء
للشهداءِ العائدين في الموج.
والسماءُ
برغم دخانها الكثيف،
تحفظ نجمةً صغيرة،
تهتدي بها قلوبُ المقهورين،
وتضيء وجوهَ الأطفال
حين ينامون على وعدٍ جديد.
فلسطينُ...
ليست جغرافيا
ولا خريطةً تتلوّن بالحبر،
هي دمعةُ أم،
هي صرخةُ طفل،
هي مفتاحُ بيتٍ
ما زال معلّقًا على الجدار.
وغزةُ...
بركانُ صبرٍ،
ورغيفُ خبزٍ يتحدّى الجوع،
وجسدٌ أعزل
يعانق الأرضَ
كي تبقى الأرضُ لنا.
فيا قارئةَ الفنجان،
لا تسأليني عن الغد،
فالغد مكتوبٌ في العيون،
مرسومٌ بالدم،
وموشومٌ بالأمل.
أنا لم أرَ في الفنجان شيئًا،
غير رايةٍ خضراء،
تخفقُ رغم الريح،
ووجوهٍ تصعدُ من تحت الركام،
تقول للعالم:
هنا فلسطين...
وهنا غزة...
هنا الحياةُ،
رغم كلّ هذا الموت.
 صفوح صادق-فلسطين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق