الاثنين، 22 سبتمبر 2025

نص نثري تحت عنوان{{كتاب يبتلع القارئ}} بقلم الكاتب اللبناني القدير الأستاذ{{محمد الحسيني}}


 الفراغ ينظر إليك 4

"كتاب يبتلع القارئ"

(فراغات منكوسة – الدائرة الثانية)

قبل أن تصبح نواة في دائرة يسكنها الفراغ، كتبت لارا حروفها :
"الهواء يئن… الظلال تبتلع الجدران…
لم أعد أملك جسدًا، ولم تعد أصابعي تلمس شيئًا…
هناك كتاب يحدق بي، يبتلعني قبل أن أفتح الصفحة الأولى".

            ★★★

أجلس أمام الطاولة، الطرد يئن صامتًا…
لم أفتح الكتاب بعد، لكنه بدأ يكتبني، يسرب دخان الحروف إلى عروقي، إلى أصابعي، إلى كل فراغ حولي.
أشعر بأن جسدي لم يعد جسدًا… تفككت دوائر، أجزائي تتساقط، تتقلب، تتحوّل إلى فراغات معكوسة.

اليدان ترتجفان كأوراق شجرة متعفنة…
أدرك فجأة كيف ألفت كتابي هذا، وكيف كنت أعد الأيام صفحةً صفحة، كما يعد السجين نافذةً للسماء.
كل لحظة انتظار كانت ولادة… وكل سطر ضرب من سوط الروح.

الجو حولي ينهار، الغرفة تتنفس…
أمي تدخل، أو كائن يشبهها، وجهها مقلوب، والكلمات تخرج بالعكس:
"؟يتنبا اي كلاح فيك"
الكوب يطفو… الشاي يسيل للأعلى…
وأنا جزء من الحروف نفسها، محاصر بين دوائر تتحدث، تتنفس، تبتلع.

الصفحات تلف يدي، تلتف حول معصمي كأفاعي سوداء، تحرق جلدي…
كل زاوية نافذة، كل حرف هامش…
كل نفسٍ أصبح علامة تنصيص متكسّرة، والدوائر تنمو، تكبر، تصغر، كعيون تتراقص فوق رأسي.

ثم فجأة… أرى نفسي في المرآة، ليست واحدة… بل آلاف النسخ، كل نسخة تكتب الأخرى، وكل الأخرى تبتلع الأولى.
الهواء نفسه أصبح حروفًا، صرير الكراسي يتحوّل إلى لغة غير مفهومة…
أشعر أن الكتاب لم يعد مادة… بل كيان حي، يبتلع كل شيء، ويعيد خلقه في كل لحظة.

الدوائر تتسع بلا رحمة، تلتهم كل ما هو حي… وكل ما اعتقدت أنني أعرفه…
أمد يدي… لكنها لا تصطاد الكتاب، بل تصطاد روحي، كأنني أصبحت صفحة تتحرك بمفردها.
جسدي فقرة، أنفاسي جملة، أفكاري حروف تتلوى بلا نهاية…
كل شيء ينهار، كل شيء يُعاد خلقه، وكل شيء يصرخ بصمت.

المرآة تتحطم من الداخل، لتكشف عن فراغ هائل، يبتلع صورتي، ذكرياتي، كل لحظة كتبتها، كل سطر حلمت به…
أدرك أخيرًا: أنا لم أعد موجودة، لا كأني، لا كحرف…
بل صدى انفجار يلتهم كل حقيقة، كل وهم، وكل فراغ…
والفراغ يبتسم، مستمتعًا لأنني صرت النهاية والبدء، الصفحة التي لم تكتب بعد، الحرف الذي يبتلع كل الأبجدية، والظل الذي يلتهم كل الضوء.

✍️ محمد الحسيني ــ لبنان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق