-ظلّ الذاكرة-
أمضي، لا كعابرٍ في مدنٍ أعرفها،
بل كمن يتكئ على ظلّ الذاكرة،
مدنٌ أنهكها الوقوف الطويل في انتظار المعنى،
وأصابني فيها اعوجاج الروح
حتى صرت أبحث عن سندٍ
لا في الجدران،
بل في الصمت نفسه.
لا ألاحق النسيان،
فهو أسرع من خطاي،
ولا أشبه مدن الضباب
التي تعلّمت كيف تخفي وجوهها
كي لا ترى وجعها في المرايا.
أجلس فقط
على حافة الأمس،
حيث المقاعد مصنوعة من الحنين،
وحيث الذكريات
تتبادل النظرات دون كلام.
أتأمّل وجوهًا ضحكت يومًا
ثم تفرّقت كالأحلام عند الفجر،
أضحك مع الريح
لا لأنني بخير،
بل لأن الريح تفهم
كيف يُخفي الانكسار صوته.
أُسامر الصباح
كمن يسأله عن جدوى الاستمرار،
وأصغي لزقزقة العصافير
وهي تعبر السماء خفيفة،
فأسألها:
كيف تهاجرون دون أن تحملوا أوطانكم؟
هذا الوطن،
لا يريد الركض،
يريد احتواءً يشبه البقاء،
يريد يدًا
لا تُلوّح بالوداع،
وصدرًا يتّسع للخراب دون أن ينهار.
فلا تتركوه معلّقًا
بين رحيلٍ لا يُشفى
وانتظارٍ لا يصل.
وأمضي…
كأن الطرقات
تفكّر بي قبل أن أخطو،
وكأن المدن
تحمل ظهري المثقوب بالانتظار.
لي وطنٌ
يتوكّأ على الغياب،
كلما حاول الوقوف
أعادته الخسارات
إلى مقعدٍ من غبار الأسئلة.
نحن لا نرحل عنه،
ننزلق فقط
من بين أصابعه
كالماء الخائف من المرآة.
مدن الضباب
لا تخفي ملامحها عبثًا،
هي تعرف
أن الوضوح فضيحة،
وأن الحقيقة
حين تُقال كاملة
تنزف.
أجلس عند تخوم الذاكرة،
حيث الزمن لا يمشي،
بل يحدّق،
وحيث الوجوه التي أحببناها
صارت احتمالات،
والأسماء
صارت صدى.
أحادث الريح
عن معنى البقاء،
فتدلّني على الجهات الخطأ،
وأصغي للعصافير
وهي تجرّ السماء خلفها،
فأفهم
أن الحرية
ليست في الطيران،
بل في ألاّ يكون لك قبر
في كل مدينة.
وطني،
يا فكرةً لم تكتمل،
يا جرحًا تعلّم الكلام
فصمت،
نحن لا نطلب الخلاص،
نطلب فقط
أن لا نُنسى
في الزوايا الباردة للتاريخ.
فإن مررتم به،
لا تسرقوا صبره،
لا تتركوه
وحيدًا
يتعلّم كيف يكون وطنًا
بلا أبنائه…
ولا تقولوا إن الليل عابر،
فالليل هنا
يقيم معنا،
يعرف أسماءنا،
ويقتسم الخبز مع الخوف.
وطني ليس خريطة،
إنه ارتعاشة
في يد طفلٍ
يتعلّم العدّ
على عدد الغياب.
ليس نشيدًا،
بل نفسٌ مقطوع
يحاول النجاة
بين رئتي الزمن.
أمشي فيه
كمن يمشي فوق صوته،
أخشى أن أوقظه
فيسألني:
لماذا تأخّرتم؟
ولماذا تركتموني
أتآكل وحدي؟
مدن الضباب
تعلّمنا فنّ التلاشي،
كيف نكون حاضرِين
دون أثر،
وكيف نحبّ الوطن
بمسافةٍ آمنة
كي لا نفقده دفعةً واحدة.
لكنني ما زلت
أجمع الشظايا،
أرقّع المعنى
بما تبقّى من قلبي،
وأزرع في الخراب
نافذةً صغيرة
تكفي لمرور الضوء
ولا تكفي للرحيل.
فإن سألني أحدهم
عن الوطن،
سأشير إلى صدري
وأقول:
هنا…
ينام التعب،
وهنا يستيقظ الأمل
خجولًا
كل صباح.
لا أعلّق الوطن على مشجب القصائد،
ولا أختصره في دمعةٍ أخيرة،
أتركه مفتوحًا
كجرحٍ يعرف
أن الشفاء
ليس نسيانًا.
سأمضي،
لكنني سأترك قلبي حارسًا عند الأبواب،
يعدّ العائدين،
ويفتح للذين لم يعودوا بعد.
وطني،
إن ضاقت بك الجهات،
اسكنني،
فأنا آخر المسافات،
وأبطأ الرحيل،
وأصدق ما تبقّى
من وعد.
صفوح صادق-فلسطين

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق