السبت، 25 يناير 2020

قصة قصيرة بعنوان {{وجع الذكريات}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

(وجع الذكريات) لا أعرف أي حظ أحمق ألقى بي في جوف هذا الفندق التعس! كنت قد وصلت لتوي قادما من الجنوب، وكان التعب والإرهاق قد احالا جسدي إلى قطعة من الخردة، وضعت ثيابي جانبا تمهيدا لغسلها فيما بعد، وكنت في سبيلي لأرتداء ثيابا نظيفة غيرها ،عندما اقتحم رجل امرد الوجه الغرفة كالأعصار!حدقت مندهشا فيه وفي خادم الفندق الذي كان يحمل امتعته، رحنا نحدق في بعضنا لبرهة، انتابني الخجل وكتمت ضحكة كادت أن تفلت مني،فقد كان الرجل الأمرد أحولا! راح يحدق للحظة في جسدي شبه العاري، ثم اشاح بعينيه المتباعدتين. ارتديت ثيابي بسرعة، فيما استدار هو نحو الخادم وأخذ يساعده في ترتيب أغراضه، رحت اراقبه من خلف صحيفة كانت بجانبي على الطاولة، بدا نظيفا ومرتبا، وضع منشفة زرقاء على وسادته ثم قام بأستبدال ملاءة الفراش،أحضر الخادم ماتبقى من أغراضه، لفت انتباهي لعبة الدب الكبير التي كان يحملها بين يديه، لاحظت كيف اختطفها الرجل الأمرد منه ثم قام بأحتضانها وكأنها حبيبته! ظل ساكنا في مكانه، بالكاد يرمش!كان الخادم قد اختفى بعد أن وضع الأمرد في كفه بعض النقود المعدنية!. لعنت حظي، ظننت إني سأجد الراحة هنا لوحدي ولو لبضع ساعات،لكن خاب ظني! لم يكن مشاركة السكن بالفنادق بغريب علي، لكني لم اصادف مثل هذا الكائن من قبل، أدركت وانا المثقف الكبير بأني أمام رجل شاذ! كان هذا واضحا من حركاته وميوعته التي بدت جلية الآن، حاول أن يبدأ حديثا معي، في البداية لم يفعل! بل اكتفى بمحاولة جلب الهواء لملامح وجهه المحمرة وبحركات مضحكة من يديه الشبيهتين بأيدي البنات، نهض عن سريره ،تقدم خطوتين ثم جلس بجانبي والتصق بي، أدار يده حول كتفي وكأنه يعرفني منذ سنوات! اتسعت عيناي دهشة ثم تلونت ملامح وجهي بغضب عارم، ابعدت يده بسرعة وكأني ازيح حجرا ثقيلا، ارتد للخلف وراحت عيناه المضحكتان تدوران بغباء في محجريهما، كان واضحا ان حركتي اخافته قليلا! نهض وسار صوب النافذة، بقي للحظات يحدق صوب الساحة المستديرة الكبيرة التي كانت تعج بالسيارات والبشر، تنهد ثم عاد لسريره واحتضن لعبة الدب بصورة شديدة!كنت اراقبه خلسة، قال فجأة :
-أنا موظف هنا في بغداد، لا سكن عندي، جئت من محافظة بعيدة، لست متزوجا، مضت شهور كثيرة وأنا اتنقل في الفنادق، لكن أغلبها قذر، أعني الفنادق. لم أرد عليه مباشرة، واصل التنهد وأخذ يزيل غبارا وهميا من على منشفته الزرقاء، كنت أشعر بالجوع والنعاس، كنت اتمنى لو أني غرقت في ظلام الغرفة لوحدي، لكن هذا المخلوق أربك كل مخططاتي اللعينة. وضع الدب البني جانبا واستلقى،راح يحدق في السقف، كان يبدو طفلا ضائعا لا رجلا كبيرا، شعرت ببعض التعاطف، قلت له :
-أليس عندك أهل، أعني أخوة وأم واب. وكأني صببت ماءا مغليا فوق رأسه، انتفض جالسا، راح يرتعش فجأة وقد احتضن دبه الكبير بصورة قاسية إلى صدره، قال وهو مازال يهتز كبندول الساعة :
-لقد ماتت أمي!ليس أمي فقط ،بل اختي الكبيرة وأخي أيضا، لم يخرج أحدا منهم، الإنفجار لم يكن عادلا ،وقع في منتصف الدار تماما، انبوبة الغاز أحرقت أختي! لم أتعرف عليها، كانت سوداء ومتفحمة تماما!. لم انبس بحرف، كان شعوري خليط بين الندم لسؤاله والأسى لحاله، واصل الاهتزاز، للامام والخلف هذه المرة، قال وقد احنى رأسه ومس رأس الدب بقبلة خاطفة :
-استطعت الخروج بهذا الدب فقط، كان معفرا بالقذارة عندما وجدته في حديقة بيتنا، أنه لأخي الصغير! يبدو جميلا الآن، نظفته وعطرته، مضت شهور وهو برفقتي. تبا! كدت أن ابكي فعلا هذه المرة، كنت مثقفا خجولا بعض الشىء، وهذه القصص تؤثر بي وترهق قلبي الصغير! نهضت من مكاني، رحت أسير في الغرفة بلا هدف، توقفت عند النافذة، بقيت صامتا لدقائق بدت طويلة، اتخذت قراري، لم أكن جبانا بقدر ماكنت أريد الوحدة، كان لي أيضا همومي الخاصة، التفت برأسي إليه، ياللعجب! لقد نام بسرعة، كانت أنفاسه تتصاعد بأنتظام وهو يحتضن شقيقه الدب! خنقتني العبرة، تمنيت لحظتها لو لم يكن شاذا، كان طفلا كبيرا في رقوده بسلام، سرت على أطراف اصابعي وأخذت أجمع اغراضي القليلة في الحقيبة، ألقيت النظرة الأخيرة، كان بودي مصافحته فعلا، مشيت وأغلقت الباب خلفي بهدوء، رحت أسير في شوارع بغداد بلا هدف في البداية، تذكرت بأني جائع، جذبتني روائح الطعام المتسللة من بعض المطاعم ذات الإعلانات المغرية، طلبت غداءا دسما ثم رحت أفكر بأستئجار غرفة خاصة بي ،ولوحدي هذه المرة!!

بقلم /رعد الإمارة /العراق 

25/1/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق