الجمعة، 17 أبريل 2020

ج3 من قصة {{الفرن}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الأمارة}}

قصة: الفرن /ج٣

قطعت بضعة أمتار، لكن عيناي لم تبارحا التحديق في اللافتة الكبيرة التي احتل اميتاب العزيز أغلبها ، تسللت إلى أنفي رائحة شواء الكباب في مطعم كويسنجق، همست لنفسي وأنا الوي عنقي بعيدا عنه، كويسنجق! ياله من اسم غريب. لفت نظري وانا انقل حقيبتي لكتفي الأيسر، بناء من الطابوق الجمهوري والخشب ، توقفت في مكاني ورحت أهرش رأسي، قد يكون فندقا، تقدمت صوب البناء الواقع في بداية زقاق ضيق وقذر، والذي علته الأتربة والأوساخ، حدقت بطرف عيني صوب البيوت المنخفضة الأخرى التي كانت تجاوره، ثم رميت ببصري إلى البيت الكبير ذي الطابقين في مواجهة الفندق تماما، ترددت قليلا لكني سرعان ماحزمت أمري ووجدت يدي تقبض على سلسلة الباب المدورة، يا إلهي، قد أكون مخطئا، انه يبدو مثل بيت! طرقت الباب برفق أول الأمر، ضاعت طرقاتي وسط ضخامة الباب الكبير، كانت اشبه بطرقة طفل صغير، خيل لي أن الباب مفتوح، دفعته قليلا بيدي، بدا ثقيلا، استخدمت كتفي ويدي فأنفرج رويدا رويدا، طالعني في وجهي تماما شاب بدت عليه الدهشة من ارتباكي، حدق في ملابسي ثم في حقيبتي الحمراء، إبتسم في وجهي وافسح لي الطريق، سألته بصوت منخفض:
_هل هذا فندق!. هز رأسه وأشار بأصبعه السبابة نحو غرفة زجاجية مربعة وقال:
_هذه الإدارة، صاحب الفندق موجود، إسمه أبو زمن. ابتلعت ريقي الجاف أصلا، وأنا احدق تارة صوب الغرفة الزجاجية وتارة صوب الشاب اليافع ذي الشعر المدهون، خطوت للأمام وأنا أشعر بثقل في اقدامي، التفت للخلف، كان الشاب قد خرج واطبق الباب خلفه، شعرت بالغباء وانا اخطو صوب باب الإدارة، وأخذت ألوم نفسي، كيف نسيت أن اسأل الشاب عن أجور المبيت هنا! طرقت الباب برفق، كتمت أنفاسي، لارد، كررت الطرق بصورة أقوى هذه المرة، خيل لي إن ثمة حركة راحت تدور خلف الزجاج المعتم، كنت مندهشا من عدم رؤية ماخلف هذا الزجاج الغريب! فكرت بأن بغداد عجيبة فعلا، لحظات ثم ندت حركة، أشبه بشخص يتقلب على سرير، كان الرجل الذي فتح الباب بعينين نصف مغمضتين يبدو عليه العبوس، حدق مليا في وجهي المحمر ثم نقل بصره إلى حقيبتي، تبدلت اساريره، افسح لي مجالا ودعاني للدخول. كانت الغرفة من الداخل نظيفة ومرتبة، وثمة أثر من رائحة بخور كانت تفوح في أجواء المكان، كان أبو زمن يبدو نظاميا في كل شيء، لا أثر لغبار، الصحف موضوعة بعناية فوق المكتب، وثمة لافتة صغيرة من النحاس توسطته مكتوب فيها إسمه بخط أسود، قال وهو يتتبع نظراتي الحائرة :
_إنه مكتب وغرفة نوم أيضا، أنت من الجنوب طبعا! ملامحك السمراء توحي بذلك،-اومأت برأسي - هل تدرس هنا! أغلب ساكني هذا الفندق من طلبة المحافظات الجامعيين وأحيانا بعض العرب مصريين وسودانيين. كان يتحدث بلهجة بسيطة، وكنت أشعر بأنه إنما أراد بذلك إذابة جليد الخجل عن كاهلي! قلت بصوت بدا خافتا كنور الغرفة الباهت :
_لست طالبا، أعني لست هنا للدراسة، - وجدت نفسي أكذب ببراعة- جئت بحثا عن عمل، أكملت دراستي المتوسطة ثم تركت التعليم خلف ظهري، أنا الأبن الأكبر لعائلة اغلب افرادها من النساء، تعرف، الأوضاع هناك صعبة عندنا. رحت أفرك أصابعي وأنا أتحدث وقد وضعت الحقيبة بين ركبتي، عقد مابين حاجبيه وكف فجأة عن العبث برأس القلم الذي كان قد دسه في فمه، تنهد وهو يتراجع بمقعده للخلف، نهض وأخذ يعبث ببعض الصحف والسجلات، قال بعد أن سعل في باطن كفه :
_أنظر جيدا، أنا أقضي اغلب وقتي خارج هذا الفندق، عملي الأساسي هو المقاولات! لدي مكتب في نهاية شارع السعدون، واعتمد في عملي هنا على وجود بعض الطلبة الأمناء في الإدارة، لكن اغلبهم منشغلين بدراستهم، - رمقني فجأة بثبات اخافني بعض الشيء وكأنه كان يحاول سبر اغواري - سأعفيك من أجور الفندق، وستكون وجبات طعامك من فطور وغداء وعشاء على حسابي، ريثما نجد لك عملا يليق بك! ليست كل بغداد أمينة وأنت مازلت شابا يافعا، هل فهمتني!. كدت أن أبكي، بل إني دمعت فعلا، وانا استمع لنبرة الصدق والإطمئنان في صوته الأجش، أضاف وهو يدس حقيبتي تحت السرير، ستنام هنا - أشار للسرير ذي الملاءات البيض والوسائد المزركشة - هذا أفضل لك من مشاركة الآخرين لغرفهم، ريثما تعتاد الأمر، سأحاول البحث لك عن عمل بأسرع وقت حتى تبعث ببعض المال لأهلك، هذا الحصار قاس وعائلتك تحتاج حتما لرجل آخر في البيت!. شعرت بوجهي يحمر ويزداد سخونة، تذكرت أبي المسكين الذي كان يعمل منذ الفجر وحتى إنسلاخ النهار، من أجل أن لانشعر بأثر الحصار الذي كان جاثما كوحش اسطوري على رقاب الناس، تنهدت وأنا اخفض ببصري للأرض، قال وهو يلقي بيده على كتفي :
_لاتسرح كثيرا، انهض هيا لنقم بجولة حول المكان، سأريك بعض الأمور، حتى تفهم طبيعة عملك، تذكر بأن الألف ميل يبدأ بخطوة، وأبو زمن سيعلمك الكثير، هيا يابطل. قالها وهو يضحك ثم تقدمني للأمام، وجدت نفسي الحق به، كان متواضعا جدا وهو يرد على اسئلتي التي كان اغلبها يدور حول عدد من يشغل الغرف وجنسياتهم، ومكان المغاسل والحمامات وازرار الأنوار وادوات التنظيف، كنت أريد أن أبدأ عملي دون أن تصادفني أخطاء، لم أكن أريد أن أفشل أمامه، خاصة وهو الذي وضع ثقته في منذ أول يوم لي في بغداد العاصمة ذات الأنوار.(يتبع) 

---

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق