التاريخ: ١٦/٠٤/٢٠٢٠
موضوع: قصة (زوج الهند)
في منتصف الثمانينات لم تكن الحرب مع إيران قد إنتهت بعد، ورغم القصف الشديد الذي كان يطال كل شيء، إلا إننا لم نكن نبالي! كان إبن عمتي ينتظرني كل يوم، خلف جدار المدرسة الأبتدائية المتهدم، كان هذا دأبنا في كل يوم من أيام العطلة المدرسية، وكان من عادة اهالينا النوم في فترة الظهيرة، اما نحن فقد كنا نكره تلك العادة المقيتة، والتي كانت تقيد حركتنا وحريتنا. لم يكن سوق بلدتنا يستغرق كثيرا من الوقت للوصول إليه، عشر دقائق بالحافلة فحسب، لكن وكعادتنا كل يوم، فقد كان الأمر يستغرق منا حوالي الساعة، كنا نتعمد السير بصورة بطيئة والتمتع بمنظر الأشياء، وأحيانا الضحك على بعض المارة المذعورين والفارين من القصف المدفعي المتقطع! كان سوق البلدة يعج بشتى انواع السلع والبضائع الغريبة، كنا نقف كثيرا عند بعض الحاجات الأجنبية، وأكثر ماكان يجذب انظارنا منها، هو المأكولات واللعب المثيرة، أتذكر بأن إبن عمتي جذبه منظر بعض الثمار ذات مرة، توقف عندها ثم لم يتحرك رغم وخزي لخصره مرات عدة، قلت له وأنا أحاول أن أبدو بمظهر الذكي العارف بالأمور :
_هذه ثمار جوز الهند، لذيذة جدا، جلب أبي واحدة منها ذات مرة. حدق في، لمعت عيناه بفرح غريب وهو يردد، زوج الهند! كدت أن استلقي على قفاي من شدة الضحك، قلت :
_جوز وليس زوج ياغبي. ضربته على رأسه برفق وجررته بعيدا، لكنه ظل يلتفت للخلف وكأن الثمار كانت تناديه. في اليوم التالي لم نستطع الذهاب، كان القصف على أشده، وكانت عيوننا تدمع ونحن نستمع لسمفونية دوي المدافع، كان حرماننا من متعتنا في التجوال اليومي سببا لهذه الدموع، التي راحت تهطل بغزارة في النهاية!. مضت بعد ذلك خمسة أيام قبل أن تخف حدة القصف، مازلت أتذكر كيف أخذنا نهرول صوب السوق، ونحن نلهث ونتلفت للخلف، بحثا عن ظل لواحد من اهالينا المتربصين!. كان الزحام على أشده في فترة مابعد الظهيرة الحارة، كنا نشم مختلف الروائح ونحن نجول في زحام السوق المسقف، رائحة البخور المتضوع من البسطات القريبة، ورائحة البهارات التي كانت تجعلنا نواصل العطاس ونحن نكركر، بسبب وبغير سبب! افتقدت إبن عمتي، أكتشفت بأني كنت أتحدث لنفسي فحسب، تلفت للخلف بحثا عنه، وجدته أخيرا، كان يقف عند ذات المكان، قريبا من بائع الجوز الكهل الذي كان ينادي على بضاعته بصوت بدا عليه التعب، لمست كتفه من الخلف، لم يجفل، اكتفى بأن تنهد وتبعني، لكنه هذه المرة لم يلتفت للخلف. عدنا لذات المكان بعد يومين، هذه المرة كان وضعنا مختلفا، لقد تنازل إبن عمتي أخيراً عن مقتنياته من الدعابل، ابتاعها منه صبي سمين كان يسكن وأهله في ذات الزقاق، وضع النقود في راحة يدي، قال :
_هاك النقود، جيوبي مليئة بالثقوب، سنبتاع أخيراً زوجة هند، حتى ولو كانت صغيرة!. لم أضحك هذه المرة، كانت الدموع تكاد تنبجس من عيني إبن عمتي، اللعين حرمني من السخرية منه. هرولنا بصورة أسرع ، كان إبن عمتي في المقدمة، أما أنا فقد كنت اقبض بيد من حديد على جيبي حيث دسست النقود، وضع إبن عمتي يديه على خاصرته وهو يرمق بائع الجوز، كان يلهث عندما دوى قصف المدافع! راح صوت القذائف القريب يشق الهواء شقا بصفير كريه، جعل أغلب المتبضعين يلوذون بالفرار، لكن إبن عمتي لم يتحرك، وحتى بائع جوز الهند وبضعة باعة آخرين بدا عليهم عدم الإهتمام، تقدمت بسرعة ووضعت النقود في يد البائع الكهل، أمسك إبن عمتي بحبة جوز الهند بلهفة، اخذ يتلفت وقد احمر وجهه خجلا، كان سعيدا وهو يحتضنها بذراعه النحيل،ارتج السوق المسقف، كانت القذيفة قريبة هذه المرة، قلت له وأنا اخفض رأسي وقد فر لوني :
_علينا أن نبتعد بسرعة، يجب أن نخرج من هذا المكان. أخذنا نجري ونحن نستبق خطواتنا، لم نكن وحدنا من نفعل ذلك، هذه المرة بدا القصف اللعين مختلفا ومركزا! كنت أجري في المقدمة بأقصى مالدي من سرعة، حين صك سمعي الصفير القريب جدا، أحسست بجسدي يرتفع في الهواء الساخن، ثم يهبط وسط الدخان والغبار مرتطما بالأرض السبخة،شعرت بدوار عنيف، كان التراب يملأ فمي وثمة سائل لزج راح يلفح عنقي من الخلف، تحسسني بعضهم، عم الهرج والمرج في المكان، سمعت من يقول :
_هذا الصبي جرحه بسيط، جسده سليم ولم تصبه شظية. رحت اسعل، انقشع الغبار الثائر شيئا فشيئا، انتابني الذعر وأنا اتلفت باحثا عن إبن عمتي، يا إلهي، حاولت النهوض، لم أستطع، كانت ركبتاي ترتجفان، قلت للرجل الذي كان يغسل وجهي وذراعي :
_كان إبن عمتي معي، أين هو، أريد إبن عمتي. أخذت أنشج بصوت عال، أشار بعضهم خلفي، التفت بصعوبة، أدهشني منظره، كان يجلس القرفصاء وقد أسود وجهه أو كاد، فيما التفت ذراعيه النحيلتين حول ثمرة جوز الهند وهو يتمايل يمنة ويسرة.(تمت)---
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق