الخميس، 21 أغسطس 2025

قصة قصيرة تحت عنوان{{قصاص في غير محله}} بقلم الكاتب القاصّ المصري القدير الأستاذ{{ماهر اللطيف}}


قصاص في غير محله
بقلم: ماهر اللطيف

كان الصباح ما يزال طريًّا، لكن الموقف يغلي بالناس. أكتاف تتلاصق، أنفاس تتزاحم، نظرات ضيقة لا ترى إلا هدفًا واحدًا: الوصول قبل غيرهم. كبار السن يُدفعون جانبًا، المرضى يتكئون على جدران الإسفلت، والحوامل يلتقطن أنفاسهن وسط سيل بشري لا يعرف التمهل.

وفجأة… اخترق الأجواء صراخ حاد، صرخة واحدة أربكت كل شيء. التفتت العيون دفعة واحدة، فإذا بامرأة شابة تتهاوى على الأرض، يلطخ دم قانٍ جنبها الأيسر. ارتجفت شفتاها وهي تلهث:
– ساعدوني… بالله عليكم…
لكن أقدامهم تجمدت، والصدمة كبّلت أياديهم.

أحدهم اتصل بالإسعاف، آخر بالشرطة، والبقية التفوا حولها يسألون:
– من فعل بك هذا؟
أومأت بالنفي، أنفاسها قصيرة، وعيناها تهربان إلى مكان بعيد عن الزحام.

بدأت ملامحها تتلاشى في ضباب الرؤية، وعاد بها عقلها إلى بيتها الصغير… زوجها المقعد ينتظر دواءه الشهري، أطفالها الثلاثة يتقلبون على بطون خاوية، بيتهم الذي لا يؤنسه إلا صوت القوارير البلاستيكية وهي ترتطم ببعضها في الزاوية… قوارير تجمعها كل يوم لتبيعها بثمن بالكاد يشتري الخبز.

دوى صفير الإسعاف، اقتربت العربة، هرع المسعفون، وضعوها على النقالة. وصلت الشرطة بعدهم بثوانٍ، دفعت الحشد إلى الوراء، وبدأت في استجواب الجميع.

فتشت الأيادي والجيوب، فعثرت لدى ثلاثة أشخاص على أسلحة بيضاء، فاقتادوهم جانبًا. كان القائد يراقب، حتى وقعت عيناه على شاب عشريني يفتت قميصه بالعرق، يتحرك بلا قرار، يلتفت في كل اتجاه، وكأن الجدران تضيق عليه. لم يقترب منه فورًا، بل أمر بجمع بطاقات الهوية أولًا. ظهر بينهم شخص مطلوب للعدالة، أما الشاب فكان سجله نظيفًا… لكن نظراته لم تكن كذلك.

أشار القائد لمساعده هامسًا:
– هؤلاء الثلاثة دعهم الآن… هات لي ذاك الشاب.

اقتيد الشاب، جلس أمام القائد، سمع صوته الهادئ:
– أين كنت ساعة الصياح؟
– كنت أحاول الركوب…
– وهل رأيت الفاعل؟
– لا… لم أرَ شيئًا.

ابتعد القائد قليلًا، ثم عاد فجأة، غيّر ترتيب أسئلته، دقق النظر في عينيه. ارتبك الشاب، تلعثم. اقترب القائد خطوة، ثم قال بلهجة آمرة:
– قل الحقيقة… أو سأجعلها تخرج منك بالقوة.

اهتز جسده، خارت مقاومته، فانهارت الكلمات من فمه:
– أنا… أنا طعنتها.
– لماذا؟
– زوجها… هو الذي قتل أبي بسيارته قبل عامين، دهسه أمام عيني، تركه ملقى على الطريق، ولم يحاسب… واليوم، اقتصصت منه.

ارتسمت على وجه القائد نظرة باردة، وقال بصوت ثقيل:
– لكنها لم تكن الجانية…

ساد الصمت… حتى صفير الإسعاف في البعيد بدا وكأنه يتلاشى في هواء أثقل من أن يُتنفس. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق