في مثل هذا اليوم، لم يطردني أبي فقط،
بل طُردتُ من رحم البيت، من ظلّ العائلة، من أمانٍ كان يُفترض أن يحميني. بعدما كنا جالسين علی مٲدبة الطعام نتعشَّی.
لكن كلماته لم تكن جملة، بل كانت رصاصةً:
"روح ولي من البيت وازقنب من الحاويات مع كلاب الشوارع."
لكنني لم أبحث في الحاويات عن طعام،
بل عن معنى.
جلستُ مع الكلاب، لا كخائفٍ بينها، بل كتلميذٍ يتعلّم درس البقاء.
رأيتُ كيف يمكن أن تُحافَظ على الكرامة حتى في أوحال القذارة.
كنت بلا سقف، بلا نقود، بلا سند.
لكنني كنت أملك كتابًا:
"هكذا تكلّم زرادشت."
قرأته على مقعدٍ مكسورٍ في حديقةٍ موصلية،
تحت شجرةٍ لا تدري أنها صارت ملجأً لفيلسوفٍ مكسور.
لم أقرأ لأفهم نيتشه،
بل لأفهم نفسي.
لم أقرأ لأحفظ أقواله،
بل لأمسك بيده وهو يرفعني من تحت الركام.
في تلك اللحظة، زرادشت لم يكن نبيًّا،
كان أبي الحقيقي.
قال لي:
"من يُطرد من البيت، يُمنح فرصةً ليؤسّس بيتًا من المعنى."
أنا لم آكل من الحاويات،
أنا أكلت من الكتب.
مزّقت الصفحات بأسناني كما تمزّق الكلاب العظام.
ارتويت من الفلسفة، ولو كان ماؤها مالحًا.
لكنني نجوت.
اليوم، في مثل هذا التاريخ،
لا أحتفل.
أنا أعلن الحرب:
على كل أبٍ يطرد،
وعلى كل مجتمعٍ يُصفّق،
وعلى كل دينٍ يبرّر،
وعلى كل أخلاقٍ تعتبرني عاقًا، فقط لأني رفضت إهانة الطرد.
أنا ابن الموصل،
ابن الحاوية، وابن نيتشه.
ابن الشارع، وابن الفكرة.
ابن الطرد، وابن المعنى.
وهذا النص ليس اعترافًا،
بل بيان ثورة:
من يُطرد من البيت،
قد يكتب يومًا كتابًا،
يُطرد منه الآخرون.
بقلم
نوزاد الموصلي
ٲربيل ـ كوردستان العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق