وجه المدينة
كانت الساعة تشير إلى التاسعة و ثلاث و أربعين دقيقة ، و لكن لاشيء يوحي بذلك و كأن الليل لم يرحل عن المدينة إلا قبل قليل .
كان السحاب يمسح على رؤوس العمارات و تمتد أصابعه متحسسة أوراق الشجر و ظله يغزو المساحات ، و ما زال الضباب يتجول في شوارعها و قد ركن في كل ركن من أركانها و زاوية من زواياها .
الكرمة مدينة صغيرة تقبع في المدخل الشرقي لمدينة وهران و لا تبعد عنها إلا بعشرين كلم . مدينة شاحبة الوجه بألوانها الترابية و بنايتها القديمة و التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية .
مدينة مثقلة الجسد و كأنها لم تنم منذ أبد.
مدينة حزينة دامعة العينين مما ابتليت به من خدوش في قلبها عبر حقب التاريخ منذ آلاف السنين...
مدينة تعاني من التهميش و تئن من اللامبالاة و من الركود و المعاناة و أثار ذلك بادية على ملامح الوجه و الجبين.
الكرمة يبدو أنها لم تعش فرحا منذ غابر السنين فغفلت عن الاهتمام بهندامها و جمال أثوابها و اليدين... هجرها أبناؤها و تخلى عنها زوجها بحثا عن لقمة العيش و طلبا للرزق الكريم...
عندما تتصفح في ملامح الساكنين فيها
يبدو لك عمر قاطنيها و قد ألفوا العيش فيها و ألفوا حياتهم الروتينية الهادئة... و لا يهمهم ما مضى من حياتهم و من السنين ، و لا يهمهم أن تنقضي سنة و تأتي سنة و يأتي عام جديد ... في الصباح الذي يبدو باكرا رغم مرور ساعتين و أكثر منه لأن الشمس لا أثر لها في سماء المدينة الصغيرة ... دخلت مقهى يقع وسط المدينة يجانبه مسجد و صيدلية و تحيط به بعض الحوانيت و سوق للخضر و الفواكه ...
مقهى نظيف و جميل بألوان وقورة تقريبا كل رواده متقدمين في السن . بادرت الجميع بالتحية فردوا علي مرحبين و منهم من أومأ بحركة وجه لطيفة... كانت الڨوبليات أو الكؤوس البلاستيكية أو المصنوعة من الكارتون مبعثرة أمام العامل و كان خدوما جدا... سألته هل له طاقم من القهوة...فخيرني بين ثلاثة كؤوس ففضلت الصغير إيمانا مني بأن الأشياء الصغيرة دائما تكون جميلة و رشيقة ... رغم طيبة العامل إلا أنني شعرت بالأسف الكبير لأن حياتنا الماضية كانت أفضل قبل أن تغزونا الحضارة المزيفة... كنا نتناول القهوة في طواقم جميلة و كانت تحضر على الجمر فيما يسمى بالجزوة...
الفرق بيننا و بين هذا الجيل أننا كنا نستمتع بها أمام موقد الحطب و يكون الارتشاف أجمل أيام الشتاء و الدفء يجمل الغرفة ... أما الآن فهم لا يرتشفون القهوة بل يحتسونها دون أن يستمتعوا بها أو يشعرون بلحظاتها ...
لقد غيرت الحضارة الوهمية كثيرا من طباعنا و من عاداتنا و تقاليدنا و من قيمنا كثيرا و إلى الأسوأ .
حضارة البلاستيك أفقدتنا الاستمتاع بالأشياء و أبعدتنا عن الأواني التقليدية النافعة و المفيدة لصحتنا كالأواني الفخارية و المهراس و غيرها . أما الحالية فقد قدمت لنا أطباقا من الأمراض أنهكت صحتنا في غفلة منا...لقد تنازلنا كثيرا إلى حد أننا قبلنا أي شيء و لم نمتنع عن أي شيء و قبلنا بثقافة البلاستيك و القوبليات و السندويتشات و البيتزا و المأكولات السريعة و تخلينا عن ثقافة أكياس الورق و الطبخ التقليدي و ما ينفعنا صحيا... و أنا في خضم رؤايا فيما أعيشه و أراه من انحدار حضاري مقيت أذهب بحياتنا الجميلة ... دخل المقهى رجلان ينيف الواحد منهما عن الثمانين بعدما بادراني بالتحية و السلام فجلسا بوقار بالقرب مني.
أثار انتباهي أن الجالس على اليمين يغطي رأسه بشاشية و يرتدي قشابية و الثاني يلف رأسه بشاش و يرتدي عباءة بزي البرنوس... هنا أدركت شيئا مهما من الماضي كانوا يهتمون به... فاللباس عندهم صحة جمال و وقار و الألوان بمدى أعمارهم ... خرجت من المقهى و قد انتابني الشعور بالراحة و اطمأنت نفسي و قلت بوجود و لو ملمح من حياتنا الماضية و بوجود الشاشية و الشاش و البرنوس و العباءة و بوجود من يبادر بالسلام حتى و إن لم يكن يعرفك فالدنيا ما زالت بخير... غادرت المدينة الصغيرة و في قلبي الكبير كثير من الحنين و الأنين
مدينة الكرمة - وهران - الجزائر
الاثنين 01/01/2024
بقلمي
الأستاذ عبد الحكيم فارح