(هارب من الطفولة )
كنت صغيرا جدا عندما فعلتها جدتي، وضعت الصينية الكبيرة أمامها،شمرت عن ذراعيها، ثم أخذت ترص فيها الأشياء،قالت وهي تزن شطارتي بعينيها البنيتين شبه الغائمتين :
-تعال ياولد، اجلس هنا لتتعلم!قطع الكيك هذه سبعة وعليك أن تحضر ثمنها جميعا!ازاحتها بأصابعها السمراء جانبا وقد علق بعض الدقيق فيها ،تنهدت وسعلت واكملت :
-هذا بيض الفأر، وهذه حلوى الجمال، تبيعها بسعر واحد، هل فهمت يا صغيري!؟. راحت امي تشجعني وهي تهز رأسها ضاحكة، كان الأطفال الآخرون قد تجمعوا حولنا، مسحت أنفي بطرف ردائي، لكن وجهي أشرق فجأة حين أشارت لقطعة كيك كبيرة يعلوها حبات من السكر اللامعة، قالت وهي تضمني لصدرها :
-هذه القطعة ستكون من نصيبك عندما تعود. واصل خليط الأطفال القذرين من اخوتي وأبناء الجيران الضحك وتبادل الإشارات وهم يرمقون جدتي ،عندما وضعت خرقة فوق رأسي،ثم عدلت من وضع الصينية الطافحة بالحاجيات، فيما راح الذباب يدور ويدور وكأنه يشارك الأطفال صراخهم وضحكهم المتواصل. لم تكن المدرسة الابتدائية المختلطة بعيدة عن دارنا، بضعة أمتار فقط، كان بودي الاستدارة عندما رحت أسير مثل الكبار فقط حتى أرى أمي، كان لدي شعور كبير بأنها تقف خلف الباب الخارجي ،ترمقني بعينيها الواسعتين المكحلتين شبه الدامعتين! .وضعت الصينية أرضا بعد أن بذلت جهدا لأحفظ توازنها، تم الأمر بسلام، كان المكان خاليا من أي أثر لطفل أو حيوان! لم تحن فرصة خروجهم بعد، حدقت يمنة ويسرة، آه، اخوتي وأطفال الجيران يقتربون وهم يتلصصون، قذرين! لحظات وراح قلبي يدق بعنف، أنه جرس المدرسة الكبير يرن، كنت أسمع صراخ الأطفال الآن ودبيب خطواتهم، تحلقوا حول الصينية، راح بعضهم يرمق البائع الجديد بفضول، فيما أخذ أكثرهم يشيرون بسباباتهم صوب قطع الكيك الضخمة ذات السكر اللامع. تقدم أحدهم، طفل بثياب نظيفة، أشار لواحدة، لكنه لم يلمسها، أخبرته عن ثمنها بصوت منخفض وقد تضرج وجهي، كدت ارقص فرحا، لقد دس يده ونقدني الثمن! ارتبكت قليلا، ظل ينتظر قطعته فيما أخذ بعض الصبية يضحكون، تداركت الوضع، حملتها بسكرها بعد أن دسست تحتها قطعة ورق بيضاء ومددت يدي المرتعشة، أخذ الفضول يلون ملامح الأطفال الآخرون، كانوا يحدقون للطفل ذو الثياب المرتبة، امتدت أكثر من يد، اقترب اخوتي، بعضهم وقف فوق رأسي يراقب ويتأكد، انقضى الوقت بسرعة، وقبل رنين الجرس كانت الصينية قد فرغت إلا من بعض الفتات الذي أصبح وليمة مجانية للذباب العنيد. حمل واحد من اخوتي الخرقة عني، فيما سار أمامنا باقي اشقائي وهم يتناوبون على حمل الصينية والتطويح بها، كانوا سعداء، وقد كفوا فجأة عن الضحك من منظري، لكني كنت أكثر سعادة منهم. سبقني إخوتي في الدخول وهم يهللون، تركت أمي أشغال الدار، بخطوات مسرعة احتضنتني من الخلف وراحت تشمني وتنحب! رمقتها جدتي بغضب، كانت تقف عند باب غرفتها،كفت أمي لكنها واصلت تقبيلي في رأسي، قبل أن تمتد يد جدتي المعروقة بقطعة الكيك الكبيرة!لمعت عيناي وشيئا فشيئا اتسعت ابتسامتي ،ثم وجدت نفسي اضحك مثل الأبلة وانا اخبىء جسدي في ثوب أمي، وسرعان مابكيت!.كنت متعبا وقد رفضت تناول الغداء ،كانت جدتي وأمي واخوتي الصغار قد فرغوا من تناوله ، وجدت نفسي اغفو فجأة فيما دارت ذراعي حول الطبق الذي ضم قطعة الكيك. لم يمض وقت طويل عندما استيقظت،وجدت أمي ملتصقة بي وقد تركت اصابعها تلعب في شعري، فيما تحلق اخوتي حول جدتي، آه، كانت تقص لهم حكاية! دارت عيناي في سقف الغرفة، ثم استقرت على قطعة الكيك، نهضت وانا انظر صوب رؤوس اخوتي بمحبة، أنهم اخوتي، لم يعودو قذرين! همست في أذن امي، حدقت في مبهورة، راحت جدتي تنظر صوبنا بفضول وهي ترى قبلات أمي المتواصلة على رأسي وخدي، رحت اضحك بصورة متواصلة، نهضت امي بعدها وهي تحمل الطبق، وضعته بين اخوتي ،قالت بصوت غلب عليه نبرة البكاء :
-هذه لكم، قسموها بينكم. ثم أدارت وجهها الغارق بالدمع صوبي واكملت :
-يقول إنه رجل البيت الآن.
بقلم /رعد الإمارة /العراق
12/1/2020