الأربعاء، 17 يونيو 2020

ج(4) من قصة {{ذات الضفيرة السوداء}} بقلم الكاتب القاصّ العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

قصة (ذات الضفيرة السوداء) ج٤

طَويتُ درجات السلّم متفادياً بأعجوبة  جسد جدتي الضخم، تبعني صوتها وهي تحاول التغلّب على نوبة السعال التي فاجأتها :
_سأمسكُ بك ياقردْ. كنتُ الهث وقد اتكأتُ بظهري إلى باب السطح، تناهى إلى سمعي ضحكة عمتي الخافتة وهي تقول لجدتي :
_اتركيه يا أمي، أنا أعرف مابه. مَددتُ رأسي من حافة السلّم، كانت عمتي ترحّب بالأم وابنتها، اختفى الجميع في غرفة الضيوف، كنت أستطيع من مكاني رؤية ثوب ذات الضفيرة الأحمر قبل أن تدلف خلف امها. أخذتُ أنقل اقدامي بحذرٍ شديد ، قد تعود جدتي للظهور، كنت أخشى أن توبخني أمام الضيفتان، هبطتُ بهدوء تامْ وانا ارهفُ السمع مثل فأرٍ صغير ، قاطعٌ سعالُ جدتي المتواصل حديثُ البنتْ مع عمتي فلم أفهم شيئا مما قالتْ، لكني سمعتُ الأم تصف أصابع عمتي بالحرير، ثم فجأة أصبحَ الحديثُ يدور همساً، تخلّله صوت جدتي لأول مرة، فهمت أخيراً، كانت الجارة الأم وجدتي تتحدثان عن عريسٍ جديد لعمتي! إتكأتُ على جدار الغرفة، أخذتِ أتخيّل عمتي، ياترى كيف سيكون شعورها؟ ولِما ضاعَ صوتها حتى لم يعد يَصلْ إلى مسامعي؟ لحظاتْ، ثم هَوتْ الكف البضّة على كتفي، اوه، التفتُ بسرعة وقد رٌكبني عفريتْ الذعر، سحقاً، إنها عمتي، اشتدَّ ضغط أصابعها على كتفي، دنَتْ مني ثم إنحنتْ وهَمستْ في اذني، قالت :
_ماتفعله عيبْ، منذ متى وانت هنا، تعال معي. قالت ذلك ثم جذبتني بسرعة من يدي واغلقتْ باب غرفتها. أخَذتْ عمتي تدور حول نفسها، إنتبهتْ لوجودي فتركت يدي، كانت ُمحمّرة الوجه وتبدو سعيدة، أخذتُ اتابع حركاتها مثل الأبله، ألقتْ على نفسها نظرة سريعة في مرآة الزينة، بعثَرتْ بعض الملابس على سريرها،راحتْ تنبش فيها، ثم جَلستْ دفعة واحدة على حافة السرير، قَطبتْ حاجبيها فجأة، هبطَ رأسها على صدرها وراحتْ تنحبُ بصوتٍ خافتْ دون أن تعير وجودي أية أهمية، آه، مسكينة عمتي، إنها واحدة من النوبات التي كانت تعتريها مابين حين وآخر، لكن ماذا لو رأتها جدتي؟ حتما ستؤنبها، دنوتُ منها، وقفت فوق رأسها، كفّتْ عن البكاء، يبدو إنها انتبهتْ لوجودي، إبتسمتْ وهي تمسح عينيها بأطراف اصابعها :
_ آه، ظننتك خَرجتْ، لابأس فأنت صديقي الشقي. اجلسَتني بجانبها، ضَحكتْ فجأة حتى كادتْ أن تشرق بضحكتها، قالتْ وهي تفركُ انفها المُحّمرْ :
_هل انتَ خائف من هذه البنتْ؟ قالتْ ذلك وهي تعبثُ في شعري، اصفرَّ وجهي لكني هَربتُ بنظراتي وانا اقول :
_أيُ بنت؟. قالتْ وهي تشدْ أذني برفق :
_أعني ابنة جارتنا، البنت التي تجلس الآن مع امها في غرفة الضيوف، اتظنني غبية؟
_آه، فهمت، لكني رجل! يجب أن تفهمي ذلك ياعمتي الطيبة،لاتخيفني بنت مثل هذه - كنت أكذب ببراعة - أنا فقط أخشى عينيها، تصوري إنها لاترمش حين تحدّقُ في،ثمة شعاع في عينيها.  كادتْ عمتي أن تستلقي على قفاها من شدة الضحك، قالت وهي تنهض وتجذبني من يدي :
_راقتني كلمة شعاع هذه، سأخبرها الآن. اصفرَّ وجهي بصدق هذه المرة، رحت أدور مع عمتي في وسط الغرفة، كان وجهها يطفح بالسعادة، لكن سعال جدتي وهي تملأ فراغ الباب جعلنا نلوذ بأحضان بعضنا مثل الجرذان، أخذتْ جدتي تحدّقُ فينا للحظة، قالتْ :
_بيت يعجُّ بالمجانين. إختبأتُ خلف عمتي، قالتْ لأمها وهي تحاول تخليص ثوبها من يدي :
_هذا الولد لايريدني أن اتزوج، يقول كيف تتركين جدتي لوحدها؟ مسكين كان يتوسلني من أجلك يا أمي، انظري إنه يوشك على البكاء. تباً! ادهشني ما فعلته عمتي، لقد كانت أشدُّ براعة مني في الكذب، اخذتْ جدتي تنظر نحوي، كان فمها يرتجف، احمّرتْ عيناها فجأة، َتركتْ نفسها على سجيتها - في أعماقي لعنت عمتي - دَنتْ مني وقد كفّتْ فجأة عن سفح دمعها، مَسحتْ انفها بطرف ردائها، فكّتْ كيس النقود وهي تهزُّ برأسها وتضحك، قالتْ :
_أعز الولد، ولد الولد، خذ حبيبي هذه لك. شَهقتْ عمتي وهي تحدق في الورقة المالية الكبيرة التي دسّتها جدتي في راحة يدي، يا إلهي، كانت أكبر ورقة نقدية أراها، كنت الهث وقد احمّرَ وجهي، وتباينتْ شتى المشاعر في داخلي، حتى إني صدقّتُ كذبة عمتي وَرميتُ بنفسي في احضانها وانا انشج واقول :
_لا تفعليها ياعمة، لاتتركينا وحدنا. اشتّدتْ قبضة عمتي على جسدي، دخلنا في نوبة بكاء نحن الإثنان هذه المرة، سمعت جدتي تسعل، كفّتْ عمتي فجأة،دَنتْ منها ثم قَبلَتها في رأسها وهمست :
_سيكون هذا آخر شيء أفعله، لن اترك امي ابداً. كنت احدّقُ في وجه جدتي، رأيتها كيف تبدّلَ وضعها، قَطبتْ حاجبيها ثم جَذبتْ عمتي من يدها وهي تقول :
_هيا معي، اتركي عنك هذا الحديث، جارتنا مازالت هناك ويجب أن نحكي بالتفاصيل. وجدتُ نفسي فجأة لوحدي وقد تلاشتْ خطوات المرأتين ، اخذتُ احدّق بالورقة المالية وقررّتُ فعلا ان أمتّع نفسي. وانا التهم لوح الشيكولاتة بنهم وامسح بطرف ردائي ماتلوثَ من فمي، شَعرتُ بأن هناك من يراقبني، كنت جالساً على آخر درجة من درجات السلّمْ، يارب السماء! كانتْ هي وقد وضعتْ اصابعها على فمها وراحتْ تكركر مع عمتي وهما تحدقّانْ نحوي بفضول، سَعلتْ جدتي وهي تقف مع جارتنا التي كانت في سبيلها للأنصراف ، تراجعتُ للخلف حتى أصبحت ملاصقاً بظهري لباب السطح، تباً لي! حتماً لم َيرقْ لها منظر فمي الملوث، هكذا همستُ لنفسي قبل أن انسلُّ من باب السطح بحذرٍ شديدْ دون أن أصدر صوتاً.(يتبع)

ليست هناك تعليقات: