قصاصات وحروف متساقطة
د.كرم الدين يحيى إرشيدات
قصاصاتٌ صغيرة...
هي حواراتٌ ومفرداتٌ بسيطة،
تتفرد بالعزف على أوتارِ الكلمة،
تبهجني مرة،
وتسعدني أخرى،
وتبكيني مراتٍ ومرات.
هي حديثُ نفسٍ إلى نفس،
وأناغيمُ من الحرفِ إلى المعنى،
قد تكون ترانيمَ أو أهازيجَ روحٍ
نسوغها أحرفًا وعناوينَ كبيرة.
قصاصاتٌ أحاول جمعها
من هنا وهناك...
ليست أوراقًا باهتة،
بل نوافذَ صغيرةً على وجهها،
تفوحُ منها رائحةُ الأيامِ التي كانت بيننا.
سأكتب على الأولى: هنا كانت تضحكُ، وكان العالمُ يُضيء.
وعلى الثانية: هنا كانت تغضبُ، فأتعلّم من عينيها معنى العاصفة.
أما الثالثة، فسأتركها كما هي،
لأن فيها همسًا لا يُكتب... بل يُحسّ،
وفيها نبضٌ من روحها يفيضُ متى قرأتُها.
تلك القصاصات...
ليست أوراقًا، بل بقايا أنفاسها العالقة بي،
ودفاترُ حضورها الذي لا يغيب.
هي الذاكرةُ والقصيدة،
وهي الحبرُ الذي سكن الحرفَ حتى صارَ حياة.
حبيبتي،
سأكتبُ عنكِ كأنني أستعيدُ أنفاسي الأولى،
كلُّ قصاصةٍ منها ستغدو نبضةً من زمنٍ جميلٍ رحل،
وسأمرّرُ عليها أصابعي
كما يُمرّرُ العاشقُ كفَّه على وجهِ الغائب.
سأكتب على إحداها: هنا كنتُ أضحكُ بصدقٍ لأوّل مرة.
وعلى أخرى: هنا خسرتُ شيئًا من قلبي... وربحتُ نُضجي.
وثالثةٌ سأتركها خالية،
لأن بعض الذكريات لا تُروى،
بل تُسكبُ صمتًا، وتُفهمُ من بين السطور.
ثم أجمعها جميعًا،
وأربطها بخيطٍ من الحنين،
وأضعها في قلبي لا في درجٍ منسيّ،
لأنها — وإن أوجعت — تذكّرني أنني عشتُ بصدق.
حبيبي،
كانت القصاصةُ الأولى لها...
أربكتني، وهزّتني،
وجعلتني أستجمعُ ما تبقّى من مشاعرٍ
ظننتُ أنّها دُفنت في مقابر الأوراق
على رفوفِ مكتبتي.
لكنها حيّة، تنبضُ بالحياة،
تنطق وتقول: حبيبي...
أحتاجُك قبل أن ينهار الصمتُ بيننا،
قبل أن تخونني الدقائقُ وتسرقَ منك حضوري.
أراك في كلِّ شيءٍ: في نسيمِ الصباح،
في خفقاتِ قلبي، في كلِّ نفسٍ يتوقُ إليك.
غيابُك يُخنقُ روحي،
ويجعلُ أيّامي صحراءَ بلا ظلٍّ، بلا ماء،
بلا صوتٍ سوى صدى اسمك.
تعال...
لتغمرني بحضنك،
لأشعرَ بأنّ العالمَ كله يختزلُ في نبضك.
أريدك كما أنت، بكلّ ضحكتك، وألمك،
بكلّ صمتك، وبكلّ كلامك
الذي يهربُ إليّ كنسيمٍ خفيف.
أحتاجك الآن،
قبل أن يسرقنا الليلُ من بعضنا،
قبل أن تصمتَ القلوبُ عن البوح،
قبل أن تضعفَ العيونُ عن انتظارك.
تعال...
لأحملَ شوقَك في يدي،
وأقبّلك بلا عدد، بلا حدود، بلا خوف،
لأبوحَ بكلّ شيء،
وأحبّكَ كما لا يُحبّ أحد،
وأهيمَ بك كما لا تهيمُ الأرواح،
وأعيشَ بك كما لم أعش من قبل.
أنتَ حبيبي...
أنتَ روحي التي أشتاقها،
ودفئي حين يبردُ العالم،
أنتَ كلُّ ما أملكُ، وكلُّ ما أريد.
تعال... قبل أن يضيعَ منا الحبّ،
قبل أن نضيع نحن
نورُ عيني،
كانت القصاصةُ الثانية…
لا أدري من كتبها:
أنا أم هي، أم نحن الاثنان؟
بدأتُ أبحث بين القصاصات،
فكانت الثالثةُ لها،
وكتبتُ فيها:
> يا حرفي الأندلسي،
يا قهوتي العربية بطعم البيلسان والليمون،
يا مليكي وفخاري،
يا من تربّعتَ على عرشِ قلبي،
لا أحدَ يملأ عيني وكياني إلاك.
روحُك تسكنني،
وترسلُ إليكَ احمرارَ وجنةِ أنثى
من خجلها وحيائها أمام ذلك الهرمِ العظيمِ في حبّه واحتوائه.
أحبك يا انا
ثمّ كانت القصاصةُ الرابعة...
قلبت كياني، أفقدتني توازني.
كتبتُ عليها:
> صفا الفؤادُ وما جفا،
عطفًا وشوقًا وما اكتفى،
أشتاقك حبيبي بحجم الكون،
أشتاقك بألف لونٍ ولون،
أهيمُ على وجنتيك،
لأطبعَ مليون قبلةٍ لا قبلة،
وأوردَ ذراعي بزهرِ عودِك الطري،
لأذكرَ ليالٍ كانت لنا معًا،
أحتضنها بين ضلوعي حلمًا ويقظة،
وأعيشُ عليها ملوعةَ القلبِ، خائفةً علينا منّا،
خائفةً منّي على روحينا.
يا ممسكَ القلب، خُذْهُ قربَ نبضك،
وعِشْ به... وعِشْ بي مدى العمر.
حبيبي،
أجدك في كلِّ شيءٍ حولي،
في صمتِ الليل، في ضوءِ النهار،
في خفقاتِ قلبي المتسارعة.
كلُّ لحظةٍ بدونك صحراءُ بلا ماء،
وكلُّ لحظةٍ بقربك غابةٌ من الألوان.
حالةٌ من الجنون أصابتني...
متى وأين كتبت؟ وكيف لم أرها من قبل؟
متى كان كلُّ هذا الحبّ؟
ولِمَ دُفن بين رفوفِ مكتبتي؟
حزنٌ كبيرٌ امتلكني...
أين أبحث عنها؟ وأين أجدها؟
حتى وقعتُ على القصاصةِ الخامسة...
طمست كلَّ الكلمات،
لم أقرأ فيها سوى كلمتين:
يا سيّدةَ نساءِ الأرض.
أدركتُ أنّني أنا من سيكتبها.
فكتبت:
> يا سيّدةَ نساءِ الأرض،
يا سيدتي أنا، وحبيبتي أنا،
يا فراشتي الصغيرة، وأميرةَ قلبي،
وسيدةَ كلماتي ومدوناتي،
يا بحرَ إلهامي وأشواقي،
أحبّكِ سيدتي، أحبّكِ أنتِ، وأشتاقكِ أنتِ.
كفانا بُعدًا، وكفى أشواقنا هجرانًا...
أما مللتِ البعاد؟
يا سيّدةَ نساءِ الأرض،
أما سئمتِ من الصمتِ والغياب؟
أما اشتاقتْ خطواتُكِ لظلالِ اللقاء؟
أم صارَ البُعدُ وطنًا،
والحنينُ غريبًا بين أهدابِ عينيكِ؟