الأربعاء، 29 أبريل 2020

ج7 من قصة {{الفرن}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

رواية الفرن /ج٧

كادت عيناي أن تبرزا من محجريهما، حين جربت إبتلاع دخان السيجارة، رحت اسعل بشدة، وبشكل متواصل! وجدت الشاب بجواري يضحك فجأة، لكن يده سرعان ما ارتفعت وراح يضربني على ظهري، حاول إفلات السيجارة من بين اصابعي، لكني أبعدتها عنه بسرعة، قلت بصوت متحشرج:
_ لا، اتركها، الآن أنا افضل. أخذت احدق في جمرة السيجارة بعيون مبللة، اشاح الشاب ببصره عني، لمحته بطرف عيني، أشعل سيجارة أخرى ثم واصل متابعة الفلم بأنتباه كبير. كان أميتاب الصبي يحتضن امه بذراعيه النحيلتين، عندما هوت من كفها المبسوطة علبة دواء فارغة، راح يحدق فيها وهي تتأرجح على أرضية الغرفة القذرة، قالت له المرأة المسنة :
_عليك أن تحضر هذا العلاج بسرعة إن أردت إنقاذ حياة أمك. نظر  أميتاب بدهشة للمرأة، ثم لأمه التي كان صدرها يعلو ويهبط، وهي تدير عينيها بحيرة في كل الإتجاهات! احمرت عيناه، لكنه قبض بشدة على علبة الدواء قبل أن ينطلق بأقصى سرعته خارج الكوخ الآيل للسقوط. شعرت بوهج السيجارة يلسع طرف اصبعي، رميت بالعقب بعد أن امتصصت آخر نفس فيه، اغمضت عيني بعد أن تراجعت برأسي للخلف، كان ثمة بقع ونقط عديدة حمراء وبيضاء أخذت تتوهج في الظلام، ياه،  إنه دوار لذيذ، وددت لو إن الأمر طال، فجأة صحوت على فرامل سيارة تصطدم بجسد أميتاب الصبي، وهو يحاول عبور الشارع نحو الصيدلية،اعتدلت في جلستي وحدقت وأنا مبهور الأنفاس، كانت علبة الدواء قد انطحنت تماما وتناثرت شظاياها، أما اميتاب  الصبي فأخذ يبذل جهده للنهوض، لكن دون جدوى، إذ سرعان ما اغمي عليه وقد غطت الدماء جسده!. هذه المرة لم يرفض جاري الشاب حفنة الفول السوداني التي قدمتها له، قال وهو يرمي بالحبات في فمه :
_هل هذه أول مرة لك؟ اقصد إن طريقتك مضحكة بالتدخين، كدت أن تختنق. اومأت برأسي وأنا اغالب الضحك، قلت :
_نعم، اول مرة، واظنها لن تكون الأخيرة!. كنت أتكلم معه، وشعور بدوار خفيف لكنه لذيذ، أخذ يجتاح رأسي. كان السائق الذي صدم أميتاب في طريقه، لأحضار إبن الرجل الغني، والذي اتضح إنه لم يكن سوى الولد النحيل، الذي دافع عنه أميتاب!.افاق أميتاب الصبي وراح يحدق يمنة ويسرة، وجد نفسه راقدا على سرير أبيض، في غرفة نظيفة مطلية باللون الأبيض، حدق في البنت  ذات الرداء الأبيض والتي كانت في سبيلها لأغلاق النافذة المفتوحة، قال لها بصوت ضعيف :
_أين أنا؟ أمي، أين أمي. تقدمت البنت صوبه، ابتسمت له برقة وقالت :
_لاتقلق، أنت بخير، اوقفنا النزيف ببساطة، تحمل قليلا، سيأتي الطبيب قريبا لكن لاتتحرك. كاد أميتاب أن ينهض عن سريره، امتدت يد البنت تمنعه، سمعته يصرخ بصوت يشبه العواء :
_أمي، اريد أمي. لا أعرف كيف إنسابت الدموع على خدي، وجدت نفسي اتنهد بصوت لفت انتباه جاري الشاب، وخزني بيده، وهو يقدم لي سيجارة، بدت جمرتها تتوهج في الظلام، سمعته يهمس وهو يسحب نفسا عميقا من سيجارته :
_إنه فيلم جيد، يجلب لك الذكريات كلها، دفعة واحدة. التفت اليه وأنا أجر نفسا طويلا من السيجارة، لم انبس بحرف، لكني هززت رأسي وواصلت التنهد. وقف الصبي أميتاب عند كوخهم شبه المتهدم، كان معصوب الرأس، تقدم بخطوات مترددة أول الأمر، لكنه سرعان ماهرول للداخل وهو ينادي على أمه، اخذ صدره يعلو ويهبط، لم يكن ثمة أحد في الكوخ، اخبره واحد من الجيران إنها ماتت! احمرت عيناه حتى اصبحتا مثل الجمر، وهوت تحت قدميه علبة الدواء، ثم سقط مغشيا عليه. اغمضت عيني وانا احدق في أميتاب شبه الممدد في الشارع الترابي الضيق، حاولت كتم نشيجي، كنت أشعر بالخجل، لكن جسدي راح يرتعد فجأة، انحنى جاري الشاب وهمس بصوت منخفض :
_هل أنت مريض؟ هل تحتاج مساعدة!. هززت رأسي بقوة، شعرت بأني فعلا لست بخير، نهضت من مكاني فجأة، كان رأسي يدور، والشاشة العملاقة اخذت تهتز فجأة أمام بصري المشوش، تخطيت الأقدام الممدودة في الظلام، وخيل لي بأني دست على بعضها، وجدت نفسي في الخارج، اغمضت عيني ورحت أعبّ الهواء عباً، تقدمت للأمام بخطوات متمايلة، حدقت يمينا وشمالا ثم عبرت الشارع بسرعة. كان أبو زمن مندهشا من عودتي المبكرة ، حدق في عيوني المحمرة، هز رأسه ونهض عن مكانه، لم ينبس بحرف، وجدته بعد قليل يناديني، كان يقف عند إحدى الغرف، قال :
_تبدو متعبا جدا، هذا واضح في عينيك، نم في هذه الغرفة، سأوقظك قبل أن أذهب. حاولت الرفض، وبذلت جهدا كي أبتسم، لكن ابتسامتي سرعان ما ماتت على فمي، جرني من ذراعي، أدخلني الغرفة ثم اطبق الباب واختفى بسرعة. عندما استيقظت وجدت إني مازلت بثياب  الخروج! كنت أشعر بالجوع، وكان الوقت قد تجاوز الظهيرة، لم يكن ثمة ساعة مثبتة إلى جدار الغرفة، لكني أحسست بذلك! حاولت النهوض فشعرت بثقل في رأسي، آه، تذكرت شيئا فشيئا، أميتاب الصبي أولا ثم جاري الشاب والسجائر، ولم أنس َ طبعا دموعي المسفوحة! ثم خطر في بالي أبو زمن، ذلك الرجل الذي آواني واطعمني ووثق بي، تبا لغبائي، ماذا فعلت! تحاملت على نفسي، كان الفندق يعمه السكون في مثل هذا الوقت، الإنارة شبه معتمة، وجدت أبو زمن منحنيا حين دخلت، حتى أنه لم يسمع طرقاتي الخافتة على الباب! اطبق السجل ذو الغلاف الأسود وابتسم بوجهي، ياربي، كم قلبه طيب هذا الرجل.(يتبع) 

---

ليست هناك تعليقات: