الثلاثاء، 21 أبريل 2020

مجموعة قصص قصيرة بعنوان {{عابر سبيل، يتنهد بقوة}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الامارة}}

عابر سبيل، يتنهد بقوة 

١(الآخر)  طال غياب أبي، والتفكير أرهق عقلي الصغير. قبل أن يسافر حملني وأخذ يدور بي، ظل يدور ويدور، كدت أن اتقيأ، فجأة كف عن الدوران، فعل ذلك بالوقت المناسب، كنت الهث، اما وجهي فكان مصفرا من الخوف، لكنه اضحكني، إنه يعرف كيف يفعل ذلك، همس بإذني وقال :
_سأحضر لك العاباً كثيرة، حتى إني قد أحتاج لحقيبة أخرى، حدقت فيه، هز رأسه وهو يؤكد ماهمس به، أتذكر إني كدت أن أشرق من كثر الضحك!. قالت أمي في واحد من المساءات العديدة التي مرت على غياب أبي، قالت :
_عليك أن تنامي مبكرا إن أردت رؤية أباك، أنا أكبر منك وأعرف إن الآباء لايحضرون حين يكون أبنائهم مستيقظون!. حدقت فيها بعيون متسعة وبذلت جهدا حتى لا أرمش، ولأنها أمي فقد صدقتها، العجيب إني إستيقظت عند الفجر، لا أعرف هل كان بسبب صياح ديك الجيران، أم لشعوري بالعطش، عندما التفت صوب أمي خفق قلبي بشدة، أمي لم تكن لوحدها! فأبي كان ملتصقا بها، لكن حين دققت النظر ماتت فرحتي، فأنا لا أعرف هذا الرجل الذي كان يدير ذراعيه حولها، ويهمس بصوت لايشبه صوت أبي، ابدا ابدا!

٢(دلال) وقف عمي وقد ملأ هيكله الضخم فراغ الباب، قال :
_تعال ياولد، نعم إقترب أكثر ، أريد أن أراك جيدا. أخذنا نحدق في بعضنا، كانت عينيه تومضان بشدة، رفع سبابته السمينة ثم وخز بها صدري، حتى كاد أن يخرقه، همس بصوت كالفحيح :
_تقول البنت إنك لاتريد الزواج منها، ثمة شيء لا أفهمه، وهي لاتريد أن تقول السبب، قلت أسألك انت. كنت غاضبا جدا، هذه المرة دفع بسبابته في جبهتي، تراجعت للخلف، تمكن الغضب مني، كنت يافعا، لم أزن الكلام في ذهني، بل أطلقته دفعة واحدة :
_ السبب ياعمي لرفض الزواج، لأنها حامل مني!. نطقت بعبارتي هذه في وجهه وتركته مذهولا، ثم جريت بأقصى سرعتي، وخبأت رأسي في حجر أمي!.

٣ (العرافة) قالت جدتي وهي تقبض بيد من حديد على معصم أمي :
_إجعلي كفك مبسوطة، نعم هكذا، آه، الخطوط في راحة يدك تنطق، إنظري يابلهاء، زوجك آت لامحالة،ولدي الحبيب، بعد أيام أو اسابيع، - ضحكت ضحكة قصيرة ثم سعلت- إن جدتك ترى كل شيء أمامها. قالت هذا لي، ثم جذبت جسدي النحيل إليها وضمتني ضمة قوية، افلتت كف أمي، نهضت هذه الأخيرة وهي تكاد تتعثر في دمعها المسفوح، لاحقتها كلمات جدتي :
_إنها دموع الفرح أكيد، سيعود الغائب أخيرا. اخذت جدتي تقبل رأسي وهي تهمس لي من بين ضحكاتها :
_أمك خجولة مثلك ياولد، هل رأيت كيف احمرت وتعثرت، هيا أرني كفك، دعنا نرى زوجتك المستقبلية. كانت جدتي تفعل ذلك كل يوم، وحتى أكون دقيقا فهي كانت تقوم بالأمر عند الغروب، تقول إن ذلك الوقت من النهار الآفل، يعتبر وقتا ميمونا! ورغم إن أبي لم يظهر في الإفق ولا في غير الإفق، إلا إننا واعني أنا وأمي الخجولة، كنا نتلهف للحظة، التي نجلس فيها بمواجهة الجدة، ننتظر سعالها المتقطع، قبل أن تتنهد وتلمع عينيها، وهي تقبض بيد من حديد كالعادة، على معصم أمي ومعصمي!. مضت بعد ذلك أشهر الشتاء، ثم تلتها بضعة شهور من فصل الصيف،لكن أبي المقاتل في الجبهة لم يعد،ثم أصبحت أمي أقل لهفة، حتى إنها صارت تفتح كفها بصورة آلية، أما أنا فلم يعد يجذبني شيء مما كانت تقوم به جدتي العرافة! فقط لمعة عينيها كانت تفعل! كان بريق عينيها وهي تقرأ الكف، يمنحها مزيد من القوة والأمل. أما أبي فلم يعد قط!.

ليست هناك تعليقات: