الفايكنغ بصيغةٍ أُخرى (1)
"عودةٌ من البحر الذي لا يهدأ"
في الشمالِ البعيد،
حيثُ صهيلُ الفايكنغ لا يزال يسري في جذوعِ الأشجار،
أبحروا نحو أرضٍ لم تكن لهم،
أشعلوا القُرى، وخنقوا الحقولَ بالنار،
ربطوا النساءَ في الساحات،
وأجبروهن أن يرقصن فوق رمادِ أطفالهن،
كي يتسلّى القائدُ بسماعِ صرخةٍ تشبه الموسيقى.
وفي الجنوب...
كانت غزّة تُعلّق قلوبها على حبالِ الغسيل،
وتنشرُ خبزَها اليابس تحتَ شمسِ الحصار.
لم يأتِ الغزاةُ من البحر،
بل من السّماء،
بطائراتٍ تُسقِط البيوتَ كما يُسقِط لاعبُ شطرنجٍ الممالكَ بخشبةٍ واحدة.
ثلاثُ ليالٍ متتابعة،
لم يأكلْ أحدٌ في الزقاقِ شيئًا،
القططُ ماتت أولًا،
ثم تبعها الدفءُ من الأجساد.
في اليومِ الرابع،
طرقَ طفلٌ بابَ جارهِ الوحيد،
وقال بصوتِ الريح:
"عندكم ظلُّ خبز؟... رائحةُ شيء؟... أيّ شيء؟"
فبكى الجار، لأنه لا يملكُ سوى صورةِ زوجتهِ على الطاولة،
أعطاها للطفل وقال:
"كُلْها بعينيك... ثم ادفنني بعدك."
في كريستيانساند،
رفعَ الفايكنغ جثّةَ شيخٍ عجوز كرايةِ نصر،
كان قد قاوم وحده بخبزهِ اليابس وعكّازه،
ضحكوا عليه،
ثم أطلقوا عليه اسم "الساحر"،
وأحرقوه كي تُضاءَ المدينةُ بمجدِهم الكاذب.
وفي مخيّمِ الشاطئ،
ماتت أمٌّ على صدرِ رضيعها من شدّةِ الجوعِ والملح،
تورّم ثديُها بالحليبِ الممنوع،
وبكى الرضيع حتى ابتلعَ الهواء،
ثم غفا في صمتٍ لا يعرفُ الأمان.
لم يكن الفايكنغ شياطين،
كانوا رجالًا بنوا آلهةً من الدم،
وآمنوا أن النار تُعمّدهم.
ولم يكن قتلةُ غزّة سوى رجالٍ
يرتدون البزّات،
ويمنحون الموتَ تصريحًا أمميًّا.
في التاريخ...
يُنسى الاسم،
وتبقى الجريمةُ محفورةً في الجدار.
وفي كليهما:
تمرّ القوافلُ فوق أجسادِ الموتى،
ويُقالُ عن المجزرة إنها ضرورة.
أيّها التاريخ...
لم تعد الكتابةُ كافية،
نريدُ أن نكسرَ الحجرَ بدمعةٍ واحدة،
تنقشُ على وجهك:
أنّ غزّة والفايكنغ لم يكونا خصمين...
بل مشهدين في فيلمٍ واحدٍ عن انهيارِ الإنسان.
✍️ محمد الحسيني ــ لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق