الاثنين، 25 أغسطس 2025

نص نثري تحت عنوان{{مدنٌ بلا ذاكرة}} بقلم الكاتب الفلسطيني القدير الأستاذ{{صفوح صادق}}


" مدنٌ بلا ذاكرة "
مدنٌ تمشي بوجوهٍ غريبة،
لا تشبه ملامحها،
ولا يذكرها لونُها،
كأنها وُلدت من ظلٍّ باهت،
أو من زمنٍ فقدَ عقاربَه.
وجوهٌ تتكاثر،
لكن لا مرآةَ تُنصفها،
ولا وقتَ يتسعُ لتفسير صمتها،
كل شيءٍ يقترب من الصفر،
حتى الحكايات...
سقطت من أفواهها الكلمات،
فأصبحت أصداءً تتكسّر في الفراغ.
طعومٌ غادرت ملحها،
وأشياءٌ هجرت جلدها،
لم يبقَ في المكان سوى وهمٍ يتنفس،
وساعةٍ تُشبه الانتظار.
كلُّ شيءٍ تبدّل،
إلا أنتَ،
ظلّك ما زال يحرس المعنى،
ويُعيد إلى الحياة،
قدرتها على البقاء.
مدنٌ لا تعرفُ وجهاً يشبهها،
مدنٌ بلا ذاكرة،
كأنها كُتبت على ورقٍ ممحو،
أو على جدارٍ لا يعترفُ بالملامح.
زمنٌ يعبر دون أن يلتفت،
ساعةٌ لا تحمل توقيتاً،
ودقائقُ تتبخر قبل أن تولد،
الوقتُ يقترب من الصفر،
كأنه يريد أن يبتلع نفسه.
الحكاياتُ التي كُنّا نظنها خلوداً،
انطفأت،
لم يبقَ منها سوى صدى يتلاشى،
الطَعم بلا ملح،
الماء بلا روح،
كلّ الأشياء هجرت قشرتها،
وعرّت حقيقتها:
لا شيء سوى العدم.
في هذا الفراغ،
نكتشف أننا نحن المدن،
ونحن الزمن،
ونحن الحكايات التي تنسى نفسها،
نحن الذين نمنح الأشياء معناها،
وحين نغادر...
يتبقى كل شيءٍ كما هو:
صامت،
فارغ،
ينتظر اسماً آخر كي يحيا.
وحين نصغي للفراغ،
ندرك أنّ الصمتَ أصدقُ من الكلام،
وأن الحكايات التي فقدت أصواتها،
لم تكن سوى أوهامٍ
تحاول أن تهرب من موتها المؤجَّل.
كلُّ المدن التي عبرناها،
كانت مجرد مرايا مُتعبة،
تعكسُ وجوهاً لا نعرفها،
ووجوهاً لا تعرف نفسها،
كأن الوجود لعبةُ تنكّرٍ كبرى،
لا أحد يخرج منها بوجهه الحقيقي.
الزمن...
هذا النهر الذي لا يتوقف،
يمحو أسماءنا،
يمحو خطواتنا،
يمحو حتى السؤال الذي نحمله،
ويتركنا عالقين بين بداياتٍ لا تبدأ،
ونهاياتٍ لا تنتهي.
ومع ذلك،
نحن نمشي،
نرفع عيوننا نحو فراغٍ أبدي،
ونسأل:
هل نحن الذين نصنع المعنى؟
أم أن المعنى وهمٌ آخر،
اخترعناه كي لا نسقط في هوّة العبث؟
لكنّ العبث،
يا صديقي،
ليس عدواً لنا،
بل هو المرآة الوحيدة
التي تجرؤ على أن تريَنا حقيقتنا:
كائناتٌ من عابرٍ وزوال،
تتشبث باللحظة
كأنها أبدٌ صغير.
وفي آخر المطاف،
ندرك أن المدن ليست سوى أسماء،
والزمن ليس سوى ظلّ يتكسر،
وأننا نحنُ الحكاية والراوي،
الطَعم والفراغ،
السؤال الذي لا يجيب.
كل شيءٍ يذوب في العدم،
غير أنّ لحظة الوعي،
لحظة أن نرى هشاشتنا،
هي المعجزة الوحيدة
التي تجعل هذا العبث جديراً بأن يُعاش.
نمضي...
لا بحثاً عن يقين،
بل بحثاً عن دهشة،
عن شرارة صغيرة تقول لنا:
ها أنت،
توجَد الآن،
وهذا وحده يكفي.

صفوح صادق-فلسطين 

٢٥-٨-٢٠٢٥. 

ليست هناك تعليقات: