الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

مقال تحت عنوان{{الفرد والمجتمع: جدلية الحرية والانتماء}} بقلم الكاتب العراقي القدير الأستاذ{{أحمد الموسوي}}


“الفرد والمجتمع: جدلية الحرية والانتماء”

يولد الإنسان فردًا فريدًا، يبحث عن ذاته، ويجتهد في صياغة معنى خاص لحياته. لكنّه في الوقت ذاته لا يتفتّح إلا بين الآخرين، حيث اللغة التي يتعلّمها من أفواههم، والقوانين التي تحميه من جور بعضهم، والمعنى المشترك الذي ينمو من عيونهم وسلوكهم. في لحظةٍ صغيرة كوقوف رجل ليفسح الطريق لعجوز في طابور المخبز، أو شابة تمسك الباب لمن يليها، أو أم تُسكت ابنها احترامًا للناس، تتجلّى حقيقة العلاقة التي شغلت الفلاسفة منذ القدم: من أكون أنا حين أكون معكم؟ وهل تكفيني حريتي إن لم تجد صدى آمنًا في وجوه الآخرين؟ إنّها جدليةٌ بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها: أن أحفظ فرادتي دون أن أنقض خيط الانتماء.

لقد رأى روسو أنّ الإنسان يولد حرًّا ثم يقيّده المجتمع، وأن الحل يكمن في العقد الاجتماعي الذي يصون الحرية من القهر. واعتبر ابن خلدون أنّ العصبية طاقة الاجتماع التي تحفظ العمران من التفكك، بينما أكّد الفارابي أنّ المدينة الفاضلة لا تُبنى على المنفعة وحدها، بل على الارتقاء بالإنسان إلى كماله الأخلاقي. وفي العصور الحديثة، شدّد هابرماس على أنّ المجتمع لا يكتمل إلا بمجالٍ عام يتكافأ فيه القول، فتُبنى الشرعية بالحوار والاعتراف لا بالقسر. وتحدث دوركهايم عن التضامن الذي ينتقل من آلي يقوم على التشابه، إلى عضوي يقوم على الاعتماد المتبادل، فيما نبّه توكفيل إلى دور الجمعيات الوسيطة في منع استبداد الدولة أو السوق، وتعليم الناس فنَّ المشاركة. أما برلين فقد فرّق بين الحرية السلبية التي تُبقي يد السلطة بعيدة، والحرية الإيجابية التي تمكّن الأفراد فعلًا من الاختيار، بينما دعا راولز إلى اختبار القوانين من وراء «حجاب الجهل» حتى لا تُظلم فئة دون أخرى.

الحرية ليست مطلقًا يُمارَس في الفراغ، بل مجالٌ يتّسع كلما أحسنا ضبط حدوده. أول هذه الحدود هو الضرر: أن تتوقف حريتي حيث يبدأ أذى الآخر؛ فلا معنى لحرية تُخلّف وراءها ضحايا. والثاني هو الاعتراف: أن يكتمل وعيي بوجود الآخر لا كمنافس يزاحمني الهواء، بل كشريك يضيف إلى معنای. أما الثالث فهو العدالة: أن تُصاغ القواعد كما لو أننا لا نعلم مواقعنا في المجتمع، فنختار ما ينصف الأضعف. هكذا تنمو المواطنة: لا كحقٍ مجرّد، بل كنسيجٍ حيٍّ من حقوقٍ وواجبات، من نقدٍ ومساءلة، من حريةٍ ومسؤولية.

ومع ذلك، هناك خطران يهددان هذه العلاقة: الفردانية المفرطة التي تتحوّل إلى تسويقٍ للذات وشعاراتٍ براقةٍ على منصاتٍ تعيش على الضجيج، والذوبان القهري في الجماعة الذي يمحو صوت الفرد ويجعل الاختلاف تهمة والسؤال وقاحة. وقد يقول تحرّريٌّ: إنّ أيّ تصحيحٍ للّامساواة اعتداءٌ على حرية التملّك. والجواب أنّ الحرية بلا عدالة تُعيد إنتاج الامتياز، بينما يضمن ميزانٌ قوامه الحرية والعدالة والاعتراف ألّا تتحوّل الحقوق إلى سورٍ يقصي الأضعف.

الكلمات هنا ليست زينةً عابرة. فهي التي تصنع وجدان الناس وخارطة مشاعرهم. حين نصف المختلف «بعدوّ» نكون قد أعلنا حربًا قبل أن نبدأ الحوار، وحين نصفه «بالشريك» نفتح نافذة للإنصاف. البلاغة إذن ليست حيلة لغوية، بل أخلاق القول: وضوحٌ في المفاهيم، إنصافٌ في الحُجّة، إصغاءٌ قبل الرد. لقد جرّبنا طويلًا ما يفعله التحريض؛ فلنجرب قليلًا ما يصنعه الإنصاف.

وفي زمنٍ رقميّ تتكثف فيه الحياة عبر الشاشات، تصبح الخوارزميات مُحرِّرًا خفيًا لخرائط انتباهنا، تعرض علينا لا «العالم» بل «عالمنا» كما تحبّه أهواؤنا. وهنا يلزم وعيٌ مضاعف: أن يحمي الفرد خصوصيته ويشكك فيما يستهلكه من أخبار وصور، وأن يسنّ المجتمع قوانينَ تُسائل المنصات وتكشف آلياتها، وأن يربّي أجياله على التفكير النقدي قبل التصديق. فاقتصاد المراقبة يحوّل التفاصيل اليومية إلى بياناتٍ قابلةٍ للاستثمار، وإذا لم نحصّن المجال العام بالشفافية والمساءلة تراخت حرية الأفراد وتشوهت إرادتهم.

وقد يسأل قارئ عملي: وماذا بعد الكلام؟ الجواب أنّ القضايا الكبرى تبدأ من التفاصيل الصغيرة. أن تُحسن الاصطفاف في الشارع جزءٌ من العدالة، أن تمنح زميلك الخجول فرصة للكلام ممارسةٌ للاعتراف، أن تُراجع معلومة قبل نشرها دفاعٌ عن المجال العام، أن تدفع ضريبتك وأنت تعلم أين تُنفق صيانةٌ لعقد المواطنة. هذه ليست مواعظ أخلاقية، بل هندسة دقيقة لبيتٍ نتقاسمه جميعًا.

وأحبّ أن أرى المجتمع كحبلٍ مجدولٍ من ثلاث خيوط لا يقوم أحدها بلا الآخر: حريةٌ تفتح الباب للمبادرة، وعدالةٌ تُقوّم المصالح وتمنع التغوّل، واعترافٌ يُثبت الكرامة في الوجدان قبل أن يُثبتها الدستور. فإذا شددنا على خيط واحد فقط انقطع الحبل عند أول عاصفة. التوازن فنٌّ نتعلمه يومًا بعد يوم، كما نتعلم الكتابة: بخطوطٍ واثقة وأخرى مشطوبة على الهامش.

وفي الختام، الفرد لا يكتمل إلا بالمجتمع، والمجتمع لا يتماسك إلا بالأفراد الأحرار. تربية الذوق المدني، وصون القانون، وتنمية الحس البلاغي، واليقظة الرقمية ليست محاضراتٍ جامعية، بل وصايا حياة. علينا أن نحرس العقد الذي بيننا بأفعال تُرى قبل أن تُكتب، وبكلماتٍ تُصلح قبل أن تجرح، وبقناعةٍ بسيطة: أننا لا ننجو فرادى، ولا نرقى إلا معًا.

✍️أ.د.أحمد الموسوي
جميع الحقوق محفوظة للدكتور أحمد الموسوي 
بتأريخ 08.25.2025

ليست هناك تعليقات: