الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

قصة قصيرة تحت عنوان{{مدينة الطماعين}} بقلم الكاتب القاصّ المصري القدير الأستاذ{{ماهر اللطيف}}


مدينة الطماعين

بقلم: ماهر اللطيف

استفقتُ باكرًا كعادتي يوم الجمعة على صياح الديكة، متبوعًا بأذان الفجر المنبعث من صوامع جوامع المدينة في هذا الشتاء القارس. توضّأت، هيّأت نفسي، تطهرت، ثم قصدت الجامع لأداء الصلاة كبقية الناس هنا لما في ذلك من أجر وثواب.

ما إن وطأت قدماي الشارع حتى ابتسمت فجأة. توقفت في مكاني، استغفرت الله، حوقلت، قرأت ما تيسّر من القرآن، ثم أغمضت عينيّ علّي أفسخ تلك الصور التي كانت ذاكرتي تعرضها عليّ تباعًا.

لكن المشهد لم يشأ أن يغادر مخيّلتي، رغم كل محاولاتي.

ذلك المشهد الذي رواه لنا الأجداد، وحدث في هذه المدينة منذ أكثر من نصف قرن. مفاده أنّ أهل "مدينة الطماعين" ـ كما صار يُطلق عليهم بعد تلك الحادثة ـ وجدوا في مثل هذا اليوم، بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة، أوراقًا كثيرة معلّقة في كل مكان. أوراق لافتة لا يمكن تجاهلها أو المرور دون قراءتها. وقد كُتب عليها:

"موعدنا اليوم في الغابة، على الساعة العاشرة صباحًا يا أهل المدينة. الحدث هام ،لا يمكن الغياب عنه. سنستخرج كنزًا ثمينًا اكتشفناه بعد سنوات من البحث والتنقيب، يكفي للجميع ويجعلهم أثرياء إلى يوم الدين. سنقسم ما بداخله بالتساوي مع الحاضرين فقط، فمن غاب غاب سهمه. نرجو إبلاغ الجميع حتى لا نستثني أحدًا أو نحتقره. والله وليّ التوفيق.

الإمضاء: فاعل خير."

انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم. تسلّل بين الناس كالنَفَس الخفي. هرعوا إلى الغابة صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، بملابسهم كيفما اتفق. تجهّزوا بالحقائب والأقفاف، وتباروا في حبك الأحلام وتشييد المشاريع المستقبلية...

لكنهم فوجئوا بأعوان الشرطة يحاصرون المكان ويمنعون أي أحد من الاقتراب، في انتظار قدوم النيابة العمومية والهياكل المختصّة. اكتمل النصاب وحضر الجميع. تضاعف المنع، وأُحكم إغلاق المكان، فيما اختفى المسؤولون عن أنظار العامة، وتوجّهوا نحو "الكنز" لحضور مراسم استخراجه. عندها بدأ الحاضرون يزمجرون، يسخطون، يهدّدون...

فقال شيخ بصوت خافت:

- حتى عند الخير الجماعي يريدون أخذ نصيبهم أوّلًا وترك الفتات لنا، إن تركوا لنا شيئًا.

- (كهل آخر، غاضب) يريدون أكل الدنيا والتسحّر بالآخرة، لا يشبعون أبدًا.

- (شيخ آخر متهكّم، مقاطع بشدّة) يسرقون الأخضر واليابس دون حياء أو خجل.

- (امرأة بصوت مرتفع) حسبي الله ونِعْم الوكيل فيهم!

واستمر الناس في اللوم، التنديد، الشجب، وتبادل التهم. أمّا المسؤولون فظلّوا يحيطون بالمكان، يترقّبون "فاعل الخير" الذي لم يحضر رغم أنّ الوقت المحدّد تجاوز نصف ساعة كاملة. فأمر النائب العام الشرطة بالحفر في الموضع الذي كُتب فوق ترابه: "هنا الكنز على عمق سبعة أمتار بالضبط."

بعد ساعة أو ساعتين -كل حسب روايته- ، أتمّ الأعوان عملهم في الأعماق، لكنهم لم يعثروا على شيء. اغتاظ الجمع، غضبوا، استشاطوا، لكنهم لم ييأسوا، وطلبوا مزيدًا من الحفر. ساعات مضنية مرّت دون نتيجة مفرحة...

وفجأة، دوّى في المكان صوت قهقهة مدوّية أربكت الصمت، فإذا بأحد الضباط يتقدّم بخطى متثاقلة، ضاحكًا، ساخرًا، شاحب الوجه، يكاد يبكي من شدّة الضحك. كان يحمل في يده ورقة بالية، مبلّلة، مهترئة، كتب عليها:

"الطمع والجشع قاتلان. الفقر لا يظلم أحدًا أيها الحالم. أفق من نومك، فقد خسرت كل شيء. هل تبحث عن كنز في أرض نُقّبت في كل شبر منذ عقود بحثًا عن وهم؟ سراب؟ حلم مستحيل؟ بين شعب متواكل، مستهلك، خانع، يائس، يطلب الخير ولا يسعى إليه..."

فكانت الصدمة... الفاجعة... النكبة.

ازدادت وطأتها على من كانوا ينتظرون نصيبهم من الغنيمة، حتى اندلعت مواجهات كادت أن تتحوّل إلى حرب أهلية، لولا أن أُذن للبعض بالاطلاع على بقية الأوراق المنتشرة.

وبعدها رجع الجميع إلى ديارهم ليكتشفوا أنهم وقعوا ضحيّة عملية تحايل منظمة، مُحكمة السيناريو والتنفيذ. أبواب المنازل خُلعت، محتوياتها سُرقت، المباني أُفرغت من الأموال والعتاد وكل غالٍ ونفيس.

هكذا تضاعفت حاجتهم، وازداد فقرهم. حلم الثراء تحوّل إلى كابوس، وانتظار الثرى صار واقعًا مريرًا يترقّب الردم تحت التراب.

ومنذ ذلك اليوم، لم تُعرف هذه المنطقة إلا باسم: مدينة الطماعين. 

ليست هناك تعليقات: