"الانتحار.. جرح الإنسان بين الفلسفة والدين والأدب"
أعرف ان الحديث عن الانتحار يشبه المشي على حافة مرآة: ترى الوجوه كلها في وقت واحد، الموجوع والقلق والواقف بعيدا يفتش عن معنى. ليس الانتحار حكاية فرد يقرر فجأة ان يغادر، بل قصة طويلة من اسئلة المعنى والعدالة والقدرة على الاحتمال، تتشابك فيها النفس والمجتمع والدين والادب والفلسفة.
حين تضيق الروح، يميل الانسان الى تصديق ان العالم لا يسمع، وان الالم سيبقى الى الابد. لكن التجربة تعلمنا ان الالم نفسه كائن متقلب؛ يعلو ويهبط، ويتبدل لونه اذا دخلته يد رحيمة او كلمة صادقة او خطة علاج. هنا ينهض الوعي الديني والاخلاقي ليحرس الحياة: في القرآن نداء صريح يحوط النفس بحرمة وكرامة، “ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما” و“ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة”، ثم باب واسع للرجاء لمن اثقلته اخطاؤه او آلامه: “قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله”. ليس هذا خطاب تهويل، بل تذكير بانك عزيز على ربك، وان اليأس ليس قدرا، “انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون”. وفي السنة تنبيه حازم الى خطورة الاعتداء على النفس، مقرونا بادب الدعاء عند الشدة: لا نتمنى الموت، بل نقول “اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي”. مقصد هذا الخطاب ليس ادانة الموجوع، بل سحب يده من الحافة ووضعها في يد رحيمة تؤنس وتداوي.
على الجانب الفلسفي، سأل كامو يوما: هل الانتحار هو المسألة الفلسفية الجدية الوحيدة؟ كان يريد ان يقول ان سؤال المعنى يسبق كل الاسئلة. ظن قوم من الرواقيين ان الخروج من الحياة قد يكون خيارا اذا انعدمت الكرامة او اشتد الالم، لكن اخلاقا اخرى رأت ان الكرامة نفسها تتجلى حين نصون ذواتنا ولا نستخدمها كوسيلة للهروب، كما قال كانط. والواقع الاجتماعي يضيف طبقة ثالثة للمعنى: دوركهايم يذكّرنا ان الروابط حين تضعف، والمعايير حين تضطرب، والبطالة والفقر والعزلة حين تطبق، يصبح الفرد هشّا، لا لانه ضعيف الخلق، بل لان الشباك الممزق لا يمسك الطيور. الفلسفة هنا لا تعظ، بل تضيء: الانتحار ليس قرارا في فراغ، بل نتيجة منظومة تحتاج ترميما.
والادب؟ الادب مرآة القلب. لا يبرر الفناء، لكنه يقرأه. من اوفيليا التي تبتلعها المياه في مخيلة شكسبير، الى مأساة روميو وجولييت حين تغلب الحماسة على البصيرة، الى آنا كارنينا التي سحقها خلل المعايير والجفاء، ومن يوميات فرجينيا وولف وسيلفيا بلاث الى مأساة خليل حاوي في عالمنا العربي، نلمح كيف يمكن للجمال حين يعوزه الحضن الاجتماعي ان ينكسر. ليست هذه الحكايات دعوات الى تقليد المصير، بل تحذيرات بليغة من ثمن السكوت، ومن خطورة التجميل الرومانسي للهاوية.
وللانتحار اسباب تتشابك كما تتشابك الجروح: اضطرابات مزاجية حادة، ادمانات، آلام مزمنة، صدمات طفولة، الى جوار عزلة قسرية وفقر وبطالة وعنف اسري وحروب ونزوح. يضاف اليها زمن رقمي يضخم المقارنة، وينشر التنمر، ويفتح ابواب عدوى سلوكية اذا غاب الوعي الاعلامي. حين يشتد هذا كله، يسمع الفرد همسا خبيثا يقول: انته الامر. والحقيقة ان الامر لم ينته؛ ما يزال هناك طبيب ورفيق ومرشد وروح تتنفس.
تأثير الانتحار على المجتمع لا يمر كغيمة صيفية. هو دائرة تتسع: عائلة تفقد ركنا، اصدقاء يتقلبون بين ذنب وغضب وحيرة، مؤسسة تخسر خبرة، ومدينة تشعر بان ناقوسا ضرب في ضميرها. الاعلام حين يسيء التغطية يضاعف الجراح باثر العدوى، وحين يحسنها، يفتح مسارات طلب العون. الخطاب الديني حين يختزل الامر في الوعيد فقط يزيد العزلة، وحين يجمع بين التحريم والرحمة يرد الناس الى الحياة.
لمسة واقعية لوجعٍ حقيقي
هل تعلم أن الإحصاءات تشير إلى أن الانتحار هو السبب الثاني للوفاة بين الشباب (15–29 سنة) عالميًا؟ وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، تحدث حالة انتحار كل 40 ثانية، أي حوالي 800,000 حالة سنويًا. في العالم العربي، تُظهر بعض الدراسات كيف أن كل حالة انتحار تُحدث في مدونة الحياة صدى عاطفيًا طويل الأمد، يقوده الحزن نحو الفجيعة، والخجل نحو الصمت، ما يجعل من الجرح مهمّة جماعية لرفع الحاجز عن النفس المتعبة.
هذه الأرقام ليست جردًا جامدًا، بل وقود لصوت الرحمة الذي نريد أن يكون أعلى من همس اليأس.
ماذا نفعل اذا؟ اولا نلتقط الاشارات قبل ان تستفحل: يأس معلن، وداع غير معتاد، عزلة مفاجئة، ترتيب وصايا، حديث متكرر عن انعدام الجدوى، تعاطي مفرط. لا نستهين ولا نجلد، بل نصغي. الاصغاء نفسه علاج اول. نمد الجسر الى اهل التخصص، فالعلاج النفسي والدوائي ليسا ضعفا ولا قلة ايمان، بل ادوات رحمة. نعين الموجوع على كتابة خطة امان: بمن يتصل اذا هاجمه الاندفاع؟ اين يذهب؟ من يرافقه؟ كيف يبعد نفسه عن الوسائل الخطرة؟ ونفتح له باب المعنى العملي: مهام صغيرة قابلة للتحقق، جسد يتحرك، نوم منتظم، عمل تطوعي يعيد للروح احساس الجدوى، عبادة تلم القلب وتعيده الى مركزه.
على مستوى الاسرة، نبدل لغة اللوم بلغة الحضن. نسأل دون تحقير، ونرافق دون فضول. في المدارس والجامعات ودور العبادة، نصنع “حراس بوابة” يتدربون على التقاط الاشارة الاولى. وفي السياسات العامة، نقلل التعرض لوسائل الانتحار، ونيسر الوصول الى خدمات الصحة النفسية، ونصنع مسارات علاج مغطاة وميسورة. اما الاعلام، فيلتزم اخلاق التغطية: لا تمجيد، لا تفاصيل عن الوسائل، دائما روابط الى خطوط المساندة. وبعد كل مأساة، لا نترك العائلة وحدها؛ الدعم اللاحق ليس ترفا، بل سد للثغرة ومنعا لانتقال الوجع.
يبقى الدين، وهو ليس سوطا في يد الناس، بل ماء بارد يسكب على قلبهم. حين يقول القرآن “ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما”، فهو يجمع بين النهي والرحمة في جملة واحدة. كأنه يقول: حياتك امانة، وانت محبوب، فلا تسلم نفسك لليأس، وتعال نبحث معا عن باب. وحين ندعو “اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي”، فنحن نعلن ثقتنا بان للخير طرقا لا نراها حين يغيم الرأس.
لست اكتب هذا لاضيف ورقا الى رف، بل لاشير الى حبل يمكن لكل واحد ان يمسكه. اذا شعرت ان الهاوية تقترب، تكلم. اذا رأيت شخصا يلوح له اليأس، اقترب. كلمة واحدة صادقة قد تغير مسار يوم كامل. والايام، شاءت ام ابت، هي المادة الخام التي نصنع منها معنى جديدا.
✍️بقلم الاديب الدكتور أحمد الموسوي
جميع الحقوق محفوظة للدكتور أحمد الموسوي
بتأريخ 08.30.2025
Time:10pm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق