مقهى السّاعة الرّابعة 3
"جحيم نُورا الوحيدة"
الرّابعةُ وجهُ ساعةٍ يَشقُّ صدرَ الليل...
يَشقُّ صدرَ الليل بسكّينِ الذّكرياتِ الملعونة، حين تقفُ نُورا وحيدةً أمامَ مرآةِ روحِها السّوداء.
تتحرَّرُ الوحوشُ المدفونةُ في قبرِ قلبِها، وتبدأُ الذّكرياتُ تنزفُ دمًا أسودَ على أرضِ المقهى الملعون.
المقهى يتشكَّل حولها كجحيمٍ شخصي... الجدرانُ تصيرُ شاشاتٍ من لحمٍ تعرضُ كوابيسها، والنادلانِ الأشباح يضعان أمامها كؤوسًا مملوءةً بدموعِ زوجِها الميّت وصُراخِ كريم المسجون.
صاحبُ المقهى الشّيطاني يشيرُ إليها بإصبعٍ كالعظم:
«تكلَّمي يا نُورا... تكلَّمي، وإلّا ستنفجرُ روحُكِ من الدّاخل!»
نُورا تبدأُ النّزيفَ النّفسي...
تبدأُ تحكي، وصوتُها يَنكسِرُ مع كلِّ كلمة:
اعترافُ الدَّمِ الأوّل:
«كنتُ سكرى... سكرى مثلَ خنزيرةٍ في وَحلِ الخمر!
زوجي قال لي: دَعيني أقود، أنتِ تترنَّحين.
لكنّني... لكنّني ضحكتُ وقلت: أنا مَلِكةُ الطّريق!»
فوق رأسِها يَنفرِجُ الصّراع:
صوتٌ يصرخ: «قودي! أنتِ أقوى من الخوف!»
صوتٌ يرتعد: «ستَقتلين نفسَكِ وإيّاه!»
صوتٌ يَحكم: «المرأةُ العاقلةُ تُطيعُ زوجَها!»
لكنَّ الغُرورَ انتصر... والغُرورُ مَقتلة!
المقهى يهتزُّ، والسُّكرة تتجسَّدُ كوحشٍ أخضر يُراقِصُها: «أنتِ قتلتيه... أنتِ قتلتيه... أنتِ قتلتيه!»
اعترافُ العارِ الثّاني:
«في المستشفى... رأيتُه ينزفُ كنهرٍ أحمر، والأطبّاءُ يركضونَ حوله كالنّمل.
وأنا... واقفةٌ أبكي وأرتجف، وأكذبُ على نفسي!»
الذِّكرى تخرجُ من الجدران كشبحٍ دموي:
زوجُها يموتُ وحيدًا، يمدُّ يده نحوها وهو يهمس: «أحبُّكِ نُورا... سامحيني لأنّني لم أحْمِكِ من الحادث.»
«قال لي سامحيني! هو يطلبُ السّماحَ منّي وأنا قاتلتُه!
والأطبّاءُ يسألونني: من كان يقود؟
وأنا أكذبُ... أكذبُ كشيطانة: زوجي... زوجي كان يقود.»
فوق رأسها الحربُ تشتعل:
صوتٌ ينوح: «قولي الحقيقة! أنقذي روحَه من الذّنب!»
صوتٌ يهمس: «لا تقولي شيئًا! أنقذي نفسك!»
صوتٌ يصدرُ حكمًا: «القاتلةُ يجب أن تعترف!»
لكنَّ الجُبنَ انتصر... وزوجُها ماتَ وهو يحملُ ذنبَها!
اعترافُ الخيانةِ الثّالث:
«وبعدَ الجنازة... أتى كريم، أخو زوجي الطيّب، شابٌّ في السّابعة والعشرينَ بقلبِ ملاك.
رآني أنهار، وظنّ أنّني حزينةٌ على زوجي.
قال للشّرطة: أنا كنتُ أقودُ السّيارة!»
الخيانةُ تتجسَّد كأفعى سوداء تلتفُّ حولَ عُنقها وتهمس: «اتركيه يذهبُ إلى الجحيم مكانك ...»
«والضّابطُ نظر إليّ وسأل: هل هذا صحيح؟
وأنا... والله... فتحتُ فمي لأقولَ الحقيقة، لكن...»
فوق رأسِها المعركةُ الأخيرة:
صوتٌ يزأر: «قولي لا! أنقذي البريء!»
صوتٌ يتوسّل: «قولي نعم! أنقذي نفسَك!»
صوتٌ يَحكم: «البَراءة أهمُّ من السّلامة!»
لكنَّ الشّيطان فيَّ انتصر... وقلتُ: نعم، كريم كان يقود.
المقهى يمتلئُ بالعقاربِ السّوداء... عقاربُ الذّنب تَزحفُ على جسدِها وتَلدغُها، كلُّ لدغةٍ ذكرى مؤلمة.
اعترافُ الجنونِ الرّابع:
«ستّةُ أشهرٍ يا إلهي... ستّةُ أشهرٍ وأنا أرى كريم في السّجن مثلَ طائرٍ مكسورِ الجناح، وأنا حرّةٌ أتنفّسُ هواءَه المسروق!»
كوابيسُها تتراقصُ حولها: كريم خلف القضبانِ يبكي، كريم ينحف، كريم يشيخ قبل الأوان.
«زرته مرّةً واحدة... مرّةً واحدة فقط لأنّني لا أستطيعُ النّظرَ في عينَيه الطيّبتين.
قال لي: كيف حالك يا نُورا؟
وأنا... بكيتُ مثل مجنونة وقلتُ له: سامحني.
قال: على ماذا؟ أنا اخترتُ حمايتك!»
تصرخُ في المقهى: «اختارَ حمايتي! البريءُ اختارَ حمايةَ القاتلة!»
اعترافُ الجنونِ الخامس:
«كلُّ ليلة... كلُّ ليلةٍ ملعونةٍ منذ مئةٍ وثمانين يومًا، أستيقظُ في السّاعةِ الرّابعة... ساعةِ موتِ زوجي في المستشفى!»
الكوابيسُ تملأُ المقهى: وجهُ زوجها الميّت يطيرُ حولها، وجهُ كريم خلفَ القضبان، صوتُ الضّابط يسأل: مَن كان يقود؟
«أحلمُ أنّني في المحكمة... والقاضي يحكمُ عليَّ بالإعدام، وأنا أصرخ: لستُ مذنبة! لستُ مذنبة! لكنَّ دمي يصرخ: أنتِ قاتلة!»
الأرواحُ الثّلاثةُ حولها تبكي، والمقهى يُصبحُ جحيمًا من الذّكرياتِ المحترقة.
نُورا تسقطُ على رُكبتيها: «أنا... أنا لا أستطيع! أنا مجنونة! قتلتُ زوجي وسجنتُ كريم وأعيشُ حرّة! أنا لا أستحقُّ الحياة!»
وفجأة... ينشقُّ سقفُ المقهى، ويدوّي الرّعد...
✍️ محمّد الحسيني ــ لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق