الخميس، 23 يناير 2020

ج3 من قصة {{ الوقحة }} بقلم القاص العراقي القدير الاستاذ {{رعد الإمارة}}

(الوقحة /الجزء الثالث والأخير )
نحت فنجان قهوتها شبه الخالي بظاهر كفها، ابتسمت بوجهي وقالت :
-انت طبعا ليس لديك سيارة.  اومأت برأسي وقد انتابني شىء من الحرج، واصلت اسئلتها التي بدت بريئة وفضولية في ظاهرها، همست :
-هل تسكن وحدك، أعني هل لديك شقة!؟ هذه المرة بادلتها النظر، لم افسح المجال لأن ترمش عيناي، ياللسماء، مااجمل عيناها وما اوسعهما!قلت لها وانا اطرق حافة الطاولة بأصابعي :
-لابد وأنك قد عرفت بأني محافظات، أعني لست من سكنة بغداد لاقديما ولاحديثا، لست غنيا  (نطقتها وكأني اصفعها بلساني)بالتالي ليس لدي شقة أو مكتب، بصراحة أنا أفقر من فأر الكنيسة!.تنفست بقوة وكأني قد ازحت حملا ثقيلا كان جاثما على صدري، لكني هربت بنظراتي، لم أكن منتبها، أمسكت بيدي بقوة هذه المرة، أخذت تحدق في بثبات لعين، تغير لوني بسرعة وراح قلبي يخفق خفقات كبيرة، نظرت يمنة ويسرة، ليس ثمة من يترصدنا، مع ذلك فنحن في حرم جامعي! خلصت يدي من براثن اصابعها المطلية، عضت على شفتها السفلى، قالت بفحيح :
-من يهتم إن كنت غنيا أم فقيرا، انا فقط أحب أن أعرف من يجالسني، كل شىء عنه، خصوصا وأنك ستصبح حبيبي!. تبا لها وألف تبا، قالتها وانفجرت ضاحكة بصورة لفتت أنظار بعض الجالسين، إنها تستغل خجلي وحيائي الأخرق، هكذا فكرت قبل أن أطلب فنجاني قهوة لي ولها. تكدست امامنا فناجين القهوة واقداح الشاي،كان الوقت يمر سريعا، وبالكاد كنا نشعر به، كنا مذهولين عن ماحولنا، عاقل ومجنونة، خجول ووقحة! قبل أن ننهض مست يدي، هذه المرة لم اسحبها، كما أنني لم احمر خجلا!قالت وهي تعلق حقيبتها  ذات الصدف في كتفها :
- هل تريد أن نلتقي خارج أسوار الكلية! بعيدا عن هذا المكان، لاترد الآن، فكر بالأمر أن كان يروقك، سأعرف الجواب غدا. افترقنا عند باب النادي، أكملت طريقي صوب قاعة المحاضرات، فيما اتخذت هي طريقا آخر يقودها خارج بناء الكلية!لا أعرف كيف مضى اليوم، لكني شعرت ولأول مرة بأن بعض رفاقي كانوا يتهامسون ويحدقون بي، أما البنات فكان بعضهن يحدق في بأشمئزاز! لم اهتم للأمر، بل إني رحت امزح مع بعضهم بصوت عال ولأول مرة! قبل أن نخرج من الكلية انتحى بي أحد رفاقي المحافظات، كنت اميل له كثيرا، لم يتردد، أمسك بيدي وهمس :
-لقد شاهدك الجميع مع هذه البنت، كن حذرا فأخلاقها سيئة، ولها أكثر من فضيحة مع الآخرين!أصابني قوله بالدهشة، كان بودي لو تقيأت حينها، رحت احدق بذهول في ظهر رفيقي الذي أخذ يسير بعيدا حتى اختفى، خيل لي بأن بعضهم أخذ ينظر وهو يهز رأسه بسخرية، لكن لا، كنت وحدي في المكان وليس ثمة من أحد. في طريق العودة قادتني قدماي بصورة آلية نحو مطعمي الصغير اللعين، تناولت لقيمات قليلة، كانت عيناي زائغتان، لم أكن أحبها، كان الأمر أكبر من ذلك!ثمة صورة رسمتها عنها في خيالي، رغم جرأتها ووقاحتها، ظننتها نظيفة، صعب أن يتلوث الكائن الجميل! سرعان ماغفوت بكامل ثيابي، كان التفكير بها قد ارهق ذهني،تبا لي ولها ولبغداد. أحيانا نشعر  بالحوادث قبل وقوعها! كانت تلك صفة لازمتني بعد ذلك لسنين طويلة، قضيت معظم الوقت قبل بدء المحاضرة الأولى بالتفرج على محلات الملابس والأحذية في ساحة الميدان، كان المكان شعلة من الحركة النشطة رغم برودة الجو، ألقيت بعقب السيجارة قبل أن اعبر الشارع حيث واجهني بناء الكلية بمنظره الكئيب، رحت أتلفت يمينا وشمالا، قد تكون بالطابق الأول مع زميلاتها، أغمضت عيني وانا امشي الخطوات المتبقية، رحت أتخيل عينيها ببريقهما العذب، ابتسامتها التي تحمل من السخرية الشيء الكثير، ايقظني من سرحاني الجميل ثلة من الطلاب كدت أن اصطدم بهم!اخذوا يضحكون وشاركتهم ضحكهم المرح وانا ارتقي درجات السلم بقلب خافق. كان عدد الطلاب والطالبات قليل، ليس من أثر لا لها ولا لزميلاتها! مضيت صوب قاعة الدرس، طالعتني وجوه أصحابي المحافظات، أخذوا يتهامسون، بدا الجو كئيبا، دنا اقربهم مني، أعترض طريقي وسحبني من ذراعي خارجا بين دهشتي وصمت الآخرين! قال وهو يضع يده على كتفي :
-يؤسفني اخبارك، كنت ستعرف في كل الأحوال، صديقتك شذى صدمتها سيارة، كانت تعبر الشارع صوب الكلية عندما حدث الأمر، انا اسف ياصاحبي، يقال إنها لم تتألم! لقد ماتت بسرعة. ضحكت في البداية !شىء في داخلي دفعني للضحك، كنت أود أن اصفع صديقي الصامت الجاد، كان الأمر حقيقيا، أن ملامحه تقول ذلك، لا أثر للمزاح إذن، طيب ليكن! ابعدت يد صديقي، سرت خطوات لكن مترنحا، بدوت مثل الأخرق وانا انظر صوب البنات بالتحديد، كان اغلبهن يعرفن بالأمر، بدت عيونهن فارغة، ليست واسعة ومخيفة حد الجمال كعيون شذى. وجدت نفسي خارج بناء الكلية، كنت امشي بلا هدف، لم يعد يهمني البرد، آه، لقد تعودت عليها، مشاغباتها اللطيفة، جرأتها، مطاردتها لي، يقولون أخلاقها سيئة! بل انتم السيئون، كل مافي الأمر أنها كانت تحب الحياة، كان بوسعي تغييرها، نعم كان بأستطاعتي ذلك، الآن علي أن اهتم بنفسي! أن آكل واشرب وادرس واهتم بصحتي، أليس هذا ماسيقوله الجميع!. مرت الأحداث بسرعة بعد ذلك، اصطحبت صديقي وسط ذهوله، طلبت منه إرشادي لمكان الحادث، أتذكر أنه احترم وجعي وانصرف، ظل يراقبني من بعيد، كانت عيناي غائمتان تماما وانا احدق في بقايا الدم الأسود! لا أعرف كم بقيت متسمرا وسط منبهات السيارات الحقيرة، شعرت بيد توضع على كتفي، قادني صاحبي لبناء الكلية الجامد. فيما تلا من الأيام حاول أكثر من أعرفهم اخراجي من عالم الحزن الذي غرقت فيه،كان أكثرهم لطيفا معي، حتى أن كثيرا من البنات اللاتي أجهل وجودهن قد اخذن يتقربن مني،لم يبقى من شىء أقوله، فقط ثمة مرض أصابني حتى استحوذ علي وتعود عليه الآخرين، كنت احدق كثيرا في عيون البنات، بدون أن ترمش عيناي، لم أعد خجولا بقدر ما أصبحت باحثا أبديا عن عيون سوداء واسعة وكبيرة! لكن بلا جدوى!!!!(انتهت 😨😢)

بقلم /رعد الإمارة /العراق 

23/1/2020

ليست هناك تعليقات: