عابر سبيل، لم يعد لديه شيء
لم يعد جيبه عامرا بالمال كما في الأيام الخوالي، لقد جعله هذا الوباء حبيسا في غرفة أخذت تضيق به شيئا فشيئا. كان ينظر بعينيه الوارمتين وملامحه المصفرة من خلال زجاج النافذة المطلة على الشارع، حين تناهت إلى سمعه تلك الأصوات التي اخذت تعلو وهي تنادي، مساعدات، مساعدات للمتعففين! اتكأ بجبينه على الزجاج البارد المغبر، يا إلهي، هل وصل الأمر لهذا الحد! حاول قدر الإمكان غض النظر عن أنياب الجوع العجيب، التي راحت تنهش في امعاءه بلا رحمة، تقدم بخطوات مضطربة نحو باب الغرفة، لقد مضى وقت طويل مذ اغلقه على نفسه! كانت ثمة عربة بيضاء اللون تتبعها أخرى بلون رمادي كالح قد توقفت جانبا، ود لو استطاع إخفاء ملامح وجهه وهو يسير مترنحا صوب الجمع الملتم حول العربتين ، حدق فيه البعض بفضول، راح يرمش بعينيه وهو يبحث عن قبس من الجرأة في الأرض المتربة! تذكر للحظة بعضا من أيام العز ثم تنهد ، ناداه صوت رجل بدا عليه التعب والجفاف، قال :
-كم شخصا عائلتك!؟ . ادهشه السؤال، ابتلع ريقه واخذ يدير عينيه في بعض الملامح التي ارتسم على اغلبها ذعر من عدو مجهول، أشار بأصبعه السبابة لنفسه وهز رأسه بأرتباك، قال :
-أنا فقط، ليس معي أحد. كاد أن يبكي فعلا وهو ينطق بعبارته الأخيرة، سلمه الرجل كيسا طافحا بأشياء لايعرفها! حاول الانصراف، بدت الابتسامة وبقايا الدمع حائرة في تضاريس وجهه المتعب، ناداه الرجل ذي الثياب البيضاء مرة أخرى، استدار وهو يحتضن الكيس بلهفة، ناوله الرجل كيسا آخر، بدا أكبر حجما هذه المرة، سمعه يقول لصاحبه :
-مسكين ووحيد، هل رأيت عيناه الطافحتان بالدمع ، خيل لي إن ثمة نهر سينبثق منهما. دفع باب الغرفة برأسه، كان قلبه يخفق بشدة! وضع الأكياس على المنضدة بلهفة، تناثرت بعض الحاجيات أرضا، لاحقت عيناه علبة معجون الطماطم التي استقرت اخيرا تحت السرير، أفرغ الكيس الأول، آه بسكويت مملح، معكرونة وثمة عدس هنا، وماهذا! علبة حلويات، هل أبدو كطفل! اخذ يهمس لنفسه، وقد انتابته نوبة ضحك، انحنى والتقط علبة المعجون، اخذ يلهث وهو يشعر بألم طفيف في صدره، تبا، إنه القلب! مد يده في جيبه بسرعة، راح يدير علبة الدواء بين أصابعه، دس حبة تحت اللسان وواصل إخراج ماتبقى من الحاجيات.!. وضع مسودة أوراق روايته الأخيرة على المنضدة، بعد أن ازاح جانبا بقايا طعام العشاء، تذكر حديثه الأخير مع صديقه الناشر حول ضرورة تسليمه الرواية بأسرع وقت ، رفع قدح الشاي بأصابع مرتجفة وتخيل ملامح المجد الذي ضيعه هذا الوباء اللعين، أفرغ ماتبقى من الشاي البارد في جوفه ثم إستل سيجارة واخذ يديرها بين الإبهام والسبابة، لكن تردده لم يطل إذ سرعان ما أشعلها وراح يتابع حلقات الدخان بصورة مملة.!!!. حل الليل سريعا، لقد مضت ساعات طوال وهو ساهم في مقعده، انتبه فجأة بعد أن هزته قشعريرة مفاجأة، حدق في الأوراق المبعثرة على المنضدة، اخذ يرمش بشكل متواصل، كور قبضته وضرب حافة المنضدة ونهض غير عابئا ببعض الأوراق التي تناثرت أرضا، وجد نفسه يدوسها بخفيه، انتابته وهو يسير صوب سريره ذي الفراش البالي، انتابته موجة ضحك مفاجأة، وضع كلتا يديه على خاصرته وراح يلهث، تذكر إن كل شيء تلاشى، وبأن هذا الوباء سيبقى لأبعد مدى! اصفر وجهه حين تخيل بأن عليه معاودة استجداء الطعام مرة بعد مرة! طفحت دموعه وادرك بأن هذا الأمر ليس عادلا ابدا، رمى بجسده على السرير، أصدر الأخير صوتا مزعجا، حدق في علب الأدوية المرصوفة بعناية على الرف القريب من سريره، تنفس بعمق ثم أغمض عينيه وتمتم، طيب ليكن، ها أنا ذا قادم!. صباحا تسللت أشعة الشمس من خصاص نافذته الوحيدة، لم يفتح عينيه ويفركهما كما في كل مرة، بقي هكذا هادئا وساكنا، حل المساء ثم تلاه مساء آخر لكنه لم يستيقظ ابدا، فيما تصاعدت من خارج غرفته أصوات كان يعرفها وهي تهتف بصورة آلية، مساعدات، مساعدات للمتعففين!. 😥
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق