(فتاة الباص)
توقف الباص عند محطة الإنتظار مثيرا حفلة من الغبار حولنا، كنت آخر من صعد قبل أن يعاود انطلاقته مرة أخرى، مشيت في الممر الضيق وأنا احاذر الأحتكاك بأجساد شاغلي المقاعد،وكنت أنظر للامام وانا انقل خطواتي وكأني اصبحت رجلا آليا!. لمحت مقعدا فارغا في منتصف الباص تماما، ألقيت بجسدي دون أن أنظر في وجه السيدة ذات التنورة السوداء ،والتي كانت تشغل المقعد المحاذي لنافذة الباص، نظرت للأسفل، فأصطدمت نظراتي بساقيها البيضاوين الممتلئتين، كانت تطرق أرضية الباص بحافة حذائها الأسود بصورة رتيبة وكأنها تعزف لحنا جنائزيا! حاولت قدر الإمكان رفع رأسي، رمقت جارتي بطرف عيني، اصابعها مطلية بلون ارجواني فاتح، وثمة ساعة ذهبية جميلة تزين معصم يدها، لكن لا خاتم في أيا من أصابعها ! سمعت صوتا فجأة سبقته نحنحة، رفعت رأسي للأعلى، اصطدمت نظراتي بملامح متعبة لرجل عجوز كان يقف فوق رأسي، حاول أن يبتسم وهو يقول :
-هل تسمح لي! أريد الجلوس بجانبك، ثمة شاغر كما أرى. عقدت مابين حاجبي، لم أفهم في بادىء الأمر، لكن إشارة يده للمقعد المحاذي للنافذة، تبا! هل أتركه يجلس في حضني! ألا يرى إن لامكان له بيننا، تأفف العجوز وأخذ يقبض بقوة على حافة المقعد، بدا متعبا جدا، رمشت في وجهه ثم نهضت ودعوته للجلوس في مكاني،لكن بطريقة مسرحية، خنقتني الضحكة وكدت أن اهمس في أذنه قائلا :
-أنت عجوز متعب وتبدو منهكا، لكن مع ذلك فأنت أحمق. كان بوسعي الآن وأنا اقبض على حافة المقعد خلف رأس العجوز، كان بوسعي رؤية صفحة خد المرأة، كانت تحدق للامام ،ولم تلتفت ولاحتى قامت بأي حركة طوال حديثي مع الرجل العجوز،قال العجوز فجأة وهو يمسك بساعدي :
-الن تجلس يابني، المكان شاغر قرب النافذة كما ترى، لايجوز ان تبقى واقفا هكذا، تجعلني أشعر بالذنب!. وضعت يدي بقوة هذه المرة على فمي، وحبست ضحكة عالية كادت أن تفلت مني، بأي عجوز أحمق ابتليت هذا الصباح، هكذا همست لنفسي وأنا اشيح برأسي جانبا. حدثت المفاجأة بعد ذلك بلحظة عندما زحف العجوز بجسده وأصبح ملتصقا بالنافذة، شلت حركته التي قام بها كل أعضاء جسدي وكأنها أصيبت كلها بدهشة جماعية، التفت صوبي ،بدا متوجسا من منظر الدهشة التي اكتست بها ملامح وجهي، لكنه مع ذلك ربت على المقعد الفارغ بجانبه وقال:
-الطريق مازال في بدايته، عليك ان تجلس وترتاح. ابتلعت ريقي، كدت أن اصيح به، والمرأة التي كانت بقرب النافذة! أين هي، هل تلاشت، لكني بدلا من ذلك ابتلعت كلماتي واغرورقت عيناي وجلست مرغما!.قطع الباص مسافة طويلة كنت في اثنائها ذاهلا عن كل ماحولي، كان العجوز يربت على يدي أحيانا وهو يتحدث، وكنت أهز رأسي فحسب! أمسك بساعدي بقوة وكاد أن ينهض لكنه اصطدم بي، انتبهت من شرودي، سمعته يقول :
-ألم تسمع ماقلت! طلبت منك مناداة السائق لإيقاف الباص لكنك تجاهلتني،-راح يسعل- اخبرتك بأني مريض، أي شباب انتم يا هذا الجيل. ازاحني بيده المعروقة جانبا وراح يتشبث بالمقاعد والركاب، خفف الباص من سرعته، تلاشى العجوز وعاد الباص يكمل مسيرته، تراخيت في مقعدي للحظة ،شعرت بأني بحاجة لبعض الهواء المنعش، زحفت صوب النافذة لكن فخذي اصطدم بجسم ثقيل في المقعد المحاذي، اصفر لوني! سمعتها تضحك بصورة خافتة ثم تقول :
-هل أنت أعمى!.(تمت )
بقلم /رعد الإمارة /العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق