الأربعاء، 16 يوليو 2025

قصة قصيرة تحت عنوان{{إذلال على قارعة الطريق}} بقلم الكاتب القاصّ التونسي القدير الأستاذ{{ماهر اللطيف}}


 إذلال على قارعة الطريق


بقلم: ماهر اللطيف

توقفت أمامي سيارة رباعية الدفع، سوداء اللون، نزل منها رجلان أنيقان في بدلتين سوداويتين، قويّا البنية، تفوح منهما رائحة عطر لم أشم مثله من قبل، وسيمَي الوجه، يبتسمان بثقة. فتح أحدهما باب السيارة الخلفي بانحناءة احترام، بينما راقب الآخر المكان بعينين حذرتين.

برز أولاً حذاء أسود لامع، تلاه قوام أنثوي أنيق. سيدة فاتنة، يفوق جمالها كمال القمر، طويلة القامة، سوداء العينين والشعر، ترتدي ثوباً فاخراً يليق برشاقتها وألقها، تسبقها رائحتها العطرة فتملأ المكان وتطرد عنه رائحة الفقر والبؤس.

خطواتها الرنانة كأنها موسيقى تعزف فوق أرصفة الحي المهترئ. اقتربت مني، جلست القرفصاء أمامي، تبسمت، ضحكت، ثم قهقهت، قبل أن تمسك بذقني بأصابعها الرفيعة، ترفع رأسي بعنف حتى شعرت بألم حاد. اقتربت من أذني وهمست بصوتها العذب المهين الذي زلزل كياني:

- لن أتركك تذوق طعم السعادة يوماً واحداً ما دمتُ حية. الحساب لم ينتهِ أيها الأبله. حان الوقت لتدفع ثمن ما فعلته بي، يا حبي الوهمي المزعوم!

- (ارتبكتُ، والخوف يحاصرني مع اقتراب الرجلين اللذين استعدا للفتك بي، لولا أنها أوقفتهما بإشارة) أ... أنتِ فوزية؟

- (قاطعتني بغضب، بصوت يقطر ازدراء) السيدة فوزية، أيها الشحاذ! لا تلوث اسمي بقذارتك.

ثم ألقت بعض النقود المعدنية في صحن بلاستيكي أمامي، داست قدمي الحافية بلا رحمة، فلم أتمالك صرخة الألم التي انطلقت مني.

مدّت يدها وسحبت بقوة خيوط سروالي المهترئ حتى تمزق أكثر، ضحكت باستهزاء، ثم نهضت، نظرت إليّ بازدراء، وبصقت بجانبي قبل أن تهمس:" سنلتقي مجدداً يا متشرد." 
غادرت بخطواتها الواثقة، تاركة إياي محطماً.

بقيت جامداً، ميتاً وأنا حي. تسيل دموعي مدراراً، ينزف قلبي وقدمي، ويرتجف جسدي. لا أسمع صوت المارة، ولا أشعر بقطرات الخير القليلة التي تُرمى لي.

بعد لحظات من الذهول، نظرت حولي. صرخت، بكيت، رفعت يدي إلى السماء أطلب العون. جمعت بقاياي وصحني الوحيد، وعدت أجري نحو المقبرة، حيث أقيم بين القبور منذ سنوات.

في الطريق، اجتاحني شريط الذكريات. كانت فوزية، ابنة عبد القادر، رجل الأعمال المعروف، جارتي. رغم الفوارق الطبقية، جمعتنا مقاعد الدراسة في الثانوية. عشقتُها وعشقتني، وتحدّت من أجلي الأعراف والمجتمع، بينما كنت أخاف حتى من الحلم بها.

دعتني مراراً للبوح بحبنا أمام الجميع، لكنني ترددت. رغم تشجيعها، آثرت الصمت. ومع ذلك، تعلّقت بي حتى اقترحت خطبتي لها حين ضاق بها انتظار الخطّاب. رفضتُ مساعدتها المالية، وطلبت منها الوقت لأثبت ذاتي.

سافرتُ إلى الخليج دون وداع، بحثاً عن المجد والثروة، أخفيت عنها وعن الجميع سفري. هناك كوّنت نفسي، إلى أن بلغني خبر موت أبي وتشرد عائلتي بعد بيع المنزل، وتخلي عائلة فوزية عنّا. طُردوا من الحي بفظاعة، ولم يرحم أحد فقرنا وضعفنا.

علمتُ أن فوزية رفضت الزواج طويلاً بانتظاري حتى تقدم بها العمر، ثم تحوّل حبها إلى نقمة، لتشرع في الانتقام مني بتشريد عائلتي. أصابتني هذه الأخبار في مقتل، فانهرت، أخطأت في عملي حتى سُجنت بعد انهيار مبانٍ صممتها، بما أنني مهندس معماري، وطُردت من الخليج بلا أموال ولا أوراق.

عدت إلى وطني معدماً، مشرداً. بحثت عن عائلتي فلم أجدهم، ولا أعلم عنهم شيئاً حتى اليوم. شُققت قدماي ودملت من البحث عن وظيفة أو أي عمل أقتات منه، دون جدوى.

عرفت فوزية بمصيري، فجاءت اليوم تسخر وتنتقم. بعثرت كرامتي على الأرض، أهانتني شر إهانة، دون شفقة أو رحمة. شفت غليلها وأزاحت عن قلبها ألم سنوات.

ومع كل هذا، لا زلت أحبها... بل أهيم بها. أظنها تحبني أيضاً، وإلا فما الذي يدفعها للبحث عني والانتقام مني بهذه القسوة إن لم يكن بقايا حب مختلط بالحقد؟

فهل تُشرق شمس المحبة مجدداً وسط هذا الخراب؟ هل نستعيد أحلام الصبا؟ هل تعينني لأقوم من جديد، وأحوّل ضعفي إلى قوة، ويأسي إلى أمل؟

ليست هناك تعليقات: