قصة قصيرة - -
االوصية الأخيرة--
--------------
أرخى الحمار أُذنيه إلي الأرض وغط في نومٍ عميق..
هدأت الدجاجات في أقنانها وتوقف النقيق..
وانزوى الحمام في ركنٍ بعيد وسكنت الأجنحة عن الرفرفة.
المنزل يختنق بالصمت... لا شيء يتحرك سوى الستارة حينما تُداعبها أنفاس يوليو الساخنة...
وهناك على السرير الأبيض، ترقد جدتي ... كجذع شجرة أرهقته المواسم، وفي يدها آخر خيط من الحياة، جسدها ساكن، وصدرها يعلو ويهبط بصعوبة، كأن أنفاسها تُنتشل من بئرٍ عميق . في عينيها وهج أخير يتشبث بما تبقى من النبض، عيناها لاتزالان تقاومان الموت، وأنا في المقابل.. لا أزال أنهار،
اقتربت منها، فمدت يدها البارده، التي تشبه غيمة راحلة، وعصرت كفي بكفها المرتجف، وهمست بصوت بالكاد يُسمع : انتبه إلى نفسك ياولدي....فقد كُتب عليك الشقاء منذ الصغر، كلماتها إخترقت سمعي كسهمٍ يسير ببطء لكنه لا يخطئ هدفه ...
ياالله...
حتى في لحظاتها الأخيرة لم تنسني،، كانت تُسلم روحها.... ومازالت تحمل همي، وتشفق علي ، وتغلفني بعطفها الأخير.
واحسرتاه ياأُماه...
كأن الموت وقف عند عتبتها متردداً ، بقيت صامده حتى آخر نفس،، ثم أغمضت عينيها، وأحكم الموت قبضته، لم أعد أشعر بدفء أنفاسها، أحسست بثقل ذراعها حول عنقي، هززتها، ضممتها بكل ماأوتيت من قوه، كما لو أن حضني قادر على رد الحياة إليها.
جدتي لماذا انقطع الصوت؟...
لماذا يأخذك الموت؟...
ألا يعلم أنني مازلت صغيراً..
ولا أطيق الحياة بدونك؟..
في تلك اللحظة شعرت أن البيت، فقد كل شيء رائحته، وظله... سكينتة وطمأنينته،
طوال حياتي لم أرى الموت وجهاً لوجه، إلا حين نظرت إلي وجهها الميت، دبت القشعريرة في جسدي، وأراد قلبي أن يهرب من بين ضلوعي ،
عقلي الباطن في محاولاته البائسة بدأ يواسيني ويكذب علي جدتك لم تمت.. إنها فقط نائمه.. لا تزعجها... ستفيق بعد قليل كما تفعل دائماً ....
وبينما أنا أتشبث بتلك الكذبة، صدح صوت من المسجد الشرقي " أهالي قرية بني حلوة الكرام" انتقلت إلي رحمة الله حرم المرحوم الحاج عبدالمنطلب عبدالعال، وستُشيع الجنازة بعد صلاة العشاء،
الآن كل شيء صار يدعو للبكاء" فبكيت وبكيت"
أتدرين ياجدتي لو كان الأمر بيدي لخلعت قلبي من بين ضلوعي، وقدمت عمري هدية لكِ دون تردد، لكنها مشيئة الله، ولا راد لقضائه. لم تتركي لي مالاً ولا أرضاً، لكنكِ تركتِ لي وصية محفورة في صدري ، إنتبه إلي نفسك ياولدي فقد كُتب عليك الشقاء منذ الصغر
منذ ذلك اليوم أصبحت أكبر من عمري،، وفي كل مرة أقف فيها على حافة الانكسار. أشعر بيد خفيه تسند قلبي فأهز رأسي وأمضي في الطريق...
وصيتها تسير أمامي، كضوء لا ينطفئ.
كتبها /محمود العارف علي
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق