صرخة سالم الأخيرة
قصة قصيرة
بقلم / محمود العارف علي
مصر
في قلب قرية بني حلوة، حيث ينهض الجبل من الغرب، وترقص الترعة من الشرق، يقوم بيت صغير لا يعرف من الزينة إلا ميدالية صدئة وشهادة تقديرقديمة، باسم الجندي محمد عبداللطيف السيد. الشهير بأبوعابر
كل شيء في البيت يوحي أن اسم (عابر) لم يكن صدفة
في أحد الأيام جلس الإبن برفقة والدته، كانت المائدة التي يسكنها الفقر مُعدة، وعليها الشهادة التي بهت حبرها بفعل السنين، وفوقها أقراص الطعمية الساخنة، وكانا ينتظران عودة الوالد من الحقل
دخل الأب يتصبب عرقاً، فتوقفت خطواته حين وقعت عيناه على الشهادة، تجمد في مكانه ، ثم علا صوته غاضباً..
كيف تضعان الطعام فوق الشهادة؟ إنها ليست ورقة عادية، إنها قطعة من عمري، دم وشرف وذكرى رجال وقفوا على حافة الموت كي تظلوا أحياء
رفع عابر رأسه نحو أبيه وقال بهدوء يُشبه الطعن:
- ياأبي، الورقة لا تحمي أحداً من الجوع، ولا تُبعد عنك تعب الحقل، إنها ورقة لا تملأ صحناً ولا تبني بيتاً
-البطولة ليست حبراً مطبوعاً، البطولة حياة تُعاش
دار العم محمد برأسه وعيناه تلمعان كعيني الصقر، مسح الجدران بنظراته فلم يرَ الميدالية، فصرخ في زوجته:
- أين الميدالية؟
ابتسمت بخوف محاولة التخفيف من حدة الموقف، وقالت
-لقد سددتُ بها جحر الفئران.. لاتغضب.
شهق محمد ورفع يده ليلطمها، غير أن الزوجة التي سبقتها دموعها، لم تتراجع هذه المره ، مسحت دموعها بكفها المتعبه، وحدقت في عينيه بنظرة ممتلئة بوجع السنين، ثم قالت بصوت مُنكسر لكنهُ قوي
-يامحمد أنت كُنت تُقاتل على الجبهة بالسلاح، وأنا كُنت أقاتل وحدي هنا بالصبر. كنت تسمع دوي المدافع، وأنا كنت أسمع دوي قلبي كل ليلة. خوفاً أن يطرق الباب خبر موتك، بينما كنت تحمل البندقية قتلني الانتظار ألف مره
سكتت لحظة وأشارت إلى الحصير المفروش على الأرض :
- هنا عشت معك ثلاثين عاماً على الجوع والتعب ولم أطلب أكثر من أن تعود حياً، لا تنسَ يامحمد أن النصر لم يُصنع بالبنادق وحدها ، بل بصبر النساء وبدموعهن التي لم يَرها أحد.
ارتجفت يد محمد ثم ارخاها وتراجع للوراء
نظر عابر نحو الباب كأنه يعد خطة هروب، أمسك طرف ثوبه وأطرق برأسه قليلاً، ثم قال بنبرة حزينة
كم هو مؤسف يابطل الحرب أن تفعل كل هذا كي ننجو من الفئران، هزمت العدو وفي نهاية المطاف يهزمك الجوع! أليس هذا يدعو للسخريه والحزن معاً؟
ارتجف صوت محمد، وضرب على صدره بقوة وهو يصرخ:
-لقد أفسد التعليم عقلك! أنا الجندي محمد سلاح المشاة، انت لا تعرف شيئاً، جنود المشاة هم سادة المعارك.. نحن الذين صنعنا من دمائنا جسوراً ليعبر الوطن نحو النصر
ساد الصمت، لم يبق على المائدة سوى رائحة الطعمية البارده، وورقة باهتة صارت أثقل من جبل
بينما كان عم محمد يحدق في الشهادة، غامت عيناه،فإذا به يرى جبهة أخرى. لم يعد يرى البيت ولا المائدة بل سمع فجأة دوي المدافع يعود يطرق أُذنيه، امتلأت السماء بدخان اسود كثيف، الأرض تهتز تحت وقع القذائف، وأزيز الرصاص يخترق الهواء كالصفير القاتل
رأى نفسه يجري بين الخناق، يحمل بُندقيته والغُبار يُلطخ وجهه،الجنود يتساقطون واحد تلو الآخر، بعضهم يصرخ، وبعضهم يصمت للأبد
وبينهم لمح صديقه سالم يسقط أرضاً، الرصاصة اخترقت صدره، اندفع محمد نحوه جثا على ركبتيه، رفع رأسه بين يديه، فإذا بعيناه تبهتان كنجمتين توشكان على الانطفاء،
ارتجفت شفتا محمد، وانهمرت دموعه بلا خوف من الرصاص
-مد سالم يده المرتجفة إلى جيب معطفه، أخرج صورة قديمة لوجه أمه، مطوية عند الحواف، ملوثة بدمه،
أعطاها لمحمد بصعوبة :
-خذها وعندما يدفنوني ضعها معي في التراب، لا أريد أن تفارقني أمي حتى تحت التراب
ارتعش قلب محمد، وكاد صدره ينفجر من البكاء، صرخ كالمجنون :
- لن اتركك ياسالم! سأحميك، حتى آخر لحظة، سوف تعيش ياأخي!
ابتسم سالم ابتسامة باهته، وهز رأسه نافياً ،ثم همس والدم يملأ فمه :
- معاً اقتسمنا كل شيء إلا الموت
- إذا عُدت قَبل يد أمي
- لا وقت لي ارفع الراية .... اجعلها ترفرف فوق الأرض الطاهرة
سقطت يد سالم بلا حول، وعيناه تجمدتا على السماء كأنهما تبحثان عن بيت آخر غير الأرض، رفع سبابتهُ نحو السماء بصعوبة:
- وتمتم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله.
فضم محمد جسده إلى صدره، وصرخ صرخة طويلة مريرة كسرت صدره قبل أن تهز المعركة
- أنا باقي على العهد ياصديقي
شد محمد جسده المنهك، وانطلق نحو الساتر الترابي، الرصاص ينهال من كل صوت، أصوات "الله أكبر" تختلط بانفجارات تهز الصدر
ركض، تعثر، نزف، لكنه نهض من جديد، وحين وصل القمه، رفع العلم بكل ماتبقى فيه من قوة، كان العلم يرتجف في يدهُ كقلب حي.
وفجأة دوى صوت الجنود من كل اتجاه كالرعد الذي يشق السماء:
- الله أكبر.. الله أكبر!
رأى العلم يرفرف عاليًا، يزيح دخان الحرب، ويشق الغبار كأنه شمس جديده وُلدت من رحم الدماء،
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وقف محمد على قبر سالم،اغمض عينيه وقال بصوت مبحوح:
- نم مطمئناً ياأخي.. النصر كُتب بدمك، والوطن حي بصرختك الأخيرة.
استفاق محمد من شروده والدموع تحرق وجنتيه، مد يده إلى الشهادة وضعها على صدره كأنها قطعة من قلبه، ثم التفت إلى عابر قائلاً:
- يابُني قد نجوع يوماً، قد نكد في الحقول،لكننا لم نركع لعدو قط، الفقر يزول.. أما شرف الوطن فيبقى مادامت هذه الراية مرفوعه فوق صدورنا
تابع بصوت يختلط بالبكاء والفخر :
- هذه الورقة ليست حبراً باهتاً إنها دم رفاقي، إنها تاريخ وطنك، إنها راية النصر التي لن تسقط أبداً
خرج إلى فناء البيت، رفع الشهادة عالياً وهتف :
-ليشهد الجميع أنا الجندي محمد سلاح المشاة ما زلت قادراً على حمل البندقيه والدفاع عن الوطن حتى آخر نفس ،حتى آخر قطرة دم، الله أكبر.. الله أكبر!
اقتربت زوجته وضعت يدها على يده وقالت :وما دام فينا قلب ينبض لن تضيع تضحياتكم
حينها ركض عابر انتزع الميدالية من جحر الفئران نفض عنها التراب رفعها عاليًا فبدت في عينيه أثمن من الذهب وأغلى من الروح، فأخذ يردد :
-الله أكبر.. الله أكبر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق