تهور باهظ الثمن
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
هل أترك القانون يأخذ مجراه كما نقول، أم أحاول التدخل لإطلاق سراح ابني وإنقاذه من ويلات السجون وصعوبة الإقامة فيها؟
هل ألومه، أم ألوم نفسي ووالدته، أم المجتمع، أم الظروف العامة التي أدت إلى هذا الانفجار والانفلات على جميع المستويات؟
وهل السجن هو الحل الأمثل للتصدي لمثل هذه الظواهر، والقضاء على مستقبل هذه الناشئة والزجّ بهم في عالمٍ غريبٍ عنهم، لن يتعلم أغلبهم منه غير الإجرام ومشتقاته؟
كنت أطرح هذه الأسئلة وغيرها في طريق العودة من مركز الشرطة، وقد عدتُ بخُفّي حُنين، دامعَ العينين، شاحبَ الوجه، منهكَ الجسد، عليلَ البدن.
أرغب في الموت بدل معايشة ما أعيشه حاليًا من وضعٍ سيقضي على عائلتي في مرحلة أولى، وعلى ذاتي في مرحلة ثانية، وعلى كل المحيطين بي والمتعاملين معي في مرحلة ثالثة.
ورغم قرب المسافة من مخفر الأمن إلى منزلي، إلا أن هذه الأمتار بدت لي آلاف الكيلومترات، بل دولًا وجبالًا وبحارًا عليّ تجاوزها لأخبر زوجتي وأبنائي بفشلي، وعدم قدرتي على استرجاع ابني كما وعدتهم منذ ساعات خلت.
فقد كنت استرجع شريط هذا اليوم منذ نهوضي لأداء صلاة الفجر في جامع الحي، وذهابي إلى المقهى رفقة بعض الأصدقاء، أتمتع بالنظر إلى شوارع المدينة وأزقتها وهي تتغطى بأحلى الحلل والزينة، بالأعلام والشعارات الملوّنة لجمعيتنا الرياضية لكرة القدم بمناسبة إجرائها اليوم مباراة "الكلاسيكو" ضد جمعية المدينة المجاورة.
كانت الكتابات الحائطية الجميلة تزيّن واجهات البنايات، ومع شروق الشمس بدأت الحياة تدبّ في المكان: فُتحت المتاجر والمقاهي، وتعالت أغاني الجمعية من كل حدبٍ وصوب، بما فيها الأغاني القبيحة. انتشرت "المجموعات" في كل الأحياء، يهتفون ويشجعون ويحثّون الناس على الذهاب إلى الملعب لمؤازرة الجمعية طيلة التسعين دقيقة.
عدتُ إلى المنزل بعد اقتنائي مستلزمات العائلة وحاجياتها اليومية، لأجد ابني صالحًا مرتديًا قميص الجمعية، يغنّي بأعلى صوته، يرقص، ويتوعد الجمعية الأخرى.
كانت آمنة، أخته التوأم، تقاسمه الحماس، وكذلك مريم المتوسطة وهدى الصغرى.
رقصتُ معهم لبعض الثواني وأنا أفتش بعيني عن هادية زوجتي التي سمحت لهم بهذه الفوضى، فرأيتها في المطبخ تجهز فطور الصباح.
أمرتهم أن يكفّوا عن هذه الفوضى، وقلتُ ببسمتي المعتادة وصوتي الرصين:
– ألا ترون أنكم لا تحترمون جيرانكم بهذه الأصوات والحركات؟
(ألتفت إلى صالح) وأنت يا رجلَ المنزل في غيابي، هل ترى المكان مناسبًا لمثل هذه الطقوس؟
– (وقد احمرّ وجهه) أنا متأسف، ظننتُ أن لا أحد يشمئز من صيحاتي في هذا اليوم الجلل.
– (هادية من المطبخ، ضاحكة ومفتخرة بأولادها) دعهم يُعبّرون عمّا يختلج صدورهم، دعهم يُفجّرون طاقاتهم الإبداعية.
– (أنا مقاطعًا بشدّة) لا يزال الوقت مبكرًا، علينا احترام الجيران وخصوصياتهم، ففيهم المريض، ومن يريد أن يتمتع بالنوم إلى ساعة متأخرة، وغيرهم.
(أتوجه بالحديث إلى صالح) اهدأ قليلًا، وكن رصينًا، فقد بلغت الثامنة عشرة وتستعد لإجراء امتحانات البكالوريا.
واصلنا الحوار مدة من الزمن وأنا أَعِظ وأنصح وأوجّه، لكن يبدو أن "كلامك يا هذا في النافخات زُمَرًا"، فقد تواصل الشدو والرقص، خاصة حين عمّت الأجواء الحماسية بين المنازل والشوارع.
حاولتُ منعه من الذهاب إلى الملعب وطلبتُ منه مشاهدة المقابلة عبر التلفاز، إلا أنه وكافة أفراد العائلة تصدّوا لي وعارضوني، وخاصة آمنة التي تحبّه حبًا جمًّا لا يوصف.
فلم أجد حينها حلًا سوى النصح والإرشاد، والتنبيه بعدم الجلوس إلى جانب المخربين وأصحاب السوء ومثيري الشغب في الملاعب.
لكنه، للأسف، لم يستوعب الدرس، وضرب به عرض الحائط، فتوسّط الجموع، وثار، وهاج، وماج، وصاح، وسبّ، وشتم، وتلفّظ بعبارات بذيئة، خاصة عند إهدار أحد لاعبينا ضربةَ جزاء، ثم طُرد آخر بالبطاقة الحمراء، وقَبِل فريقنا هدفًا أول فثانٍ بسرعة.
عندها رموا بالمقذوفات في الملعب، وأشعلوا الشماريخ، وألقوا بقوارير المياه والقطع النقدية، فعمت الفوضى الميدان والمدارج، مما أجبر الحكم على إيقاف المباراة.
لكن الوضع ازداد تأججًا وهيجانًا حين وقعت مواجهات بين الأمن والجمهور، أدت إلى إصابة العشرات من الطرفين، والقبض على مجموعة من المخربين، وكان صالح من بينهم ، إن لم أقل زعيمهم.
كانت هذه المظاهر المخزية منقولة مباشرة على شاشة التلفزيون، وقد شاهدنا صدفة لحظة القبض على صالح وهو يشتم ويتوعد ويتطاول وزمرة من رفاقه...
فصرتُ آنذاك أوبليك سيفيل ويوسين بولت مجتمعين، إذ بلغتُ مركز الشرطة في بضع ثوانٍ — أو خُيّل إليّ ذلك — دون أن أقدر على حل هذا المشكل العويص.
أدركتُ حينها أن الدنيا اسودّت في وجهي، وأصبحت ضيّقةً خانقة، ولم أعد أعي شيئًا أو أرى أحدًا.
وأيقنتُ أنني لم أخسر ابني فحسب، بل خسرتُ جيلًا كاملًا راهن على الرداءة والانحطاط الأخلاقي والتسيّب والتهرّب من المسؤولية والمواطنة، ليغرق في أتون التقهقر والتخلف وسواها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق