السبت، 13 ديسمبر 2025

قصة تحت عنوان{{قلب أبيض}} بقلم الكاتب القاصّ الأردني القدير الأستاذ{{تيسيرالمغاصبه}}


 قصة قصيرة

قلب أبيض

أقفلتُ بابَ المكتب مساءً بعد مغادرة الجميع، وسرتُ بإعياءٍ شديد بعد يومٍ شاقٍّ من العمل.
كاد النعاسُ أن يغلبني لو تأخرتُ قليلًا، ولا عجب؛ فالوقت كان متأخرًا جدًا. كانت الرياح تعصف بشدة، وكما يُقال: «تنخر العظام» أو «تكسر المسمار».
وضعتُ يديَّ في جيوب معطفي، ضامًّا نفسي به ليحميني من قسوة السماء، عندما رأيتُه من بعيد يقف في آخر الصايد الثاني الذي أسير أنا عليه.
للوهلة الأولى بدا طويلًا جدًا، و«الطول نعمة من الله» كما يُقال، عريض المنكبين، ضخمًا للغاية؛ من أولئك العمالقة الذين منحهم الله قوةً جبّارةً طبيعية دون أي مجهودٍ يبذلونه، أو نوادٍ رياضية لبناء الأجسام. كان رأسه كبيرًا جدًا، مناسبًا لحجمه الهائل.
كان يضع يديه على خاصرته، ويتابع خطواتي من بعيد، ما يعني أنه ينتظر وصولي إليه. تبيَّن لي من نظراته أنها نظراتُ تحدٍّ، أو استعدادٌ للانقضاض. تظاهرتُ بأنني لا أشعر بأي تعبٍ ولا خوف، وحتى أنني لا أبالي ببرودة الجو.
سرتُ بثقةٍ مفتعلة، مستعدًّا لأي حركةٍ مفاجئةٍ منه. وكلما اقتربتُ، كانت ملامحه تتضح لي أكثر فأكثر، ولا أجد لها تفسيرًا غير أنه ينتظرني.
لكن من هو؟ وماذا يريد مني؟!
يبدو أنه لا مناص من المواجهة.
بدأتُ أسترجع ما أحفظه من حركاتٍ قتالية وركلاتٍ تعلمتُها سابقًا في النوادي الرياضية، لعلها تفيدني في المجابهة، حتى لو كان جسده يدل على عدم وجود أي تكافؤٍ في القوى بالمصطلح الرياضي. لقد كان جبارًا مروّعًا، بينما أنا، ومع برنامج الحمية القاسي الذي اتبعته منذ أشهر، والذي جعل نزول وزني يبدو نزولًا مرضيًّا، فلن يخيفه ذلك الجسد الشديد النحول.
ما إن وصلتُ واقتربتُ منه حتى قام بحركة استعداد. كنتُ قد أخرجتُ يديَّ من معطفي، وكوَّرتُ قبضتيَّ للحظة المؤاتية.
في تلك اللحظة اندفع إليَّ مسرعًا، وكما يحدث في مثل تلك المواقف، وجَّهتُ له ركلةً لا أعرف كيف انطلقت. لم تكن الركلة قوية، بحسب تقديري، لتؤذي رجلًا بهذه القوة، أو حتى رجلًا عاديًّا، أو أقل مني قوة.
لكنه جثم على ركبتيه واحتضنني بقوة، وأجهش بالبكاء، ثم أخذ يرجوني قائلًا:
– أرجوك يا أخي أن تُسلفني خمسة دنانير لأتمكن من أخذ ابني المريض إلى الطبيب، ولن أنسى لك حسن صنيعك طوال حياتي.
قلتُ وسط ذهولي:
– قِف يا رجل، لا يجوز كل هذا… ستتمكن من عرض ابنك على أفضل طبيب.
طلبتُ منه أن يقف، وأخرجتُ محفظتي من جيبي، وكنتُ –ولحسن الحظ– قد استلمتُ مرتبي في ذلك اليوم. أخرجتُ ورقةً من فئة العشرة دنانير ومددتُها إليه، لكنه قال بتوتر، تتخلله تنهداته:
– أخي… أنا قلتُ خمسة دنانير فقط، وهي أجرة الطبيب الموجود في شارعنا.
– غير مهم، نحن إخوة بالله.
– صدقت… لكنني لن أتمكن من سداد هذا المبلغ.
– لكنني لا أطلب منك سداده.
– وأنا لا أطلب إحسانًا من أحد… حتى لو كان أخي.
هنا مدَّ يده وأخذ خمسة دنانير فقط، ثم استدار وجرى عدة خطوات، لتنزلق قدمه ويسقط في الوحل، ثم ينهض ويتابع الجري وهو يمسح دموعه.

تيسيرالمغاصبه

ليست هناك تعليقات: