فاطمة، نور عين الكرمة 1
"وين راحت الكتب؟"
(خماسية شعرية من الأدب الشعبي التونسي)
في صباح خريف، والسما صافية،
وشمس الخير تنوّر على الضيّة،
وصلت فاطمة لقرية عين الكرمة،
بقلب مليان حبّ، ونيّة سليمة.
شنطتها محشية كتب وكراسات،
وحلم كبير باش تنوّر الحياة.
المدرسة القديمة جنب جامع القرية،
حيطانها بيضا، وبابها خشب بلديّة.
دخلت فاطمة والفرحة في عينيها،
قالت: «يا ربّي بارك، هاذي مملكتي أنا».
رتّبت الكراسي، نقّت السبّورة،
وحطّت الكتب في الخزانة المنوّرة.
أوّل نهار، الأطفال جاو خجولين،
منهم الحافي، ومنهم بصبّاط قديم.
دخلوا واحد واحد، روسهم مطيّحة،
قالتلهم فاطمة: «مرحبا يا أحلى صغار».
قالتلهم بصوت دافي وحنون:
«هوني داركم الثانية، وأنا أختكم الكبيرة».
محمد، ولد صغير، عينيه سودا كالليل،
قاعد في الطرف، ساكت، وما يحكيش.
حليمة، بنت صغيرة، ضفايرها مربوطين
بخيط أحمر، تتفرّج في الأرض وتتخبّى.
رضا، شيطان القسم، ضحكة ما تهدّاش،
وسالم، ولد هادي، يشدّ قلمو بإحساس.
فرّقت فاطمة كراسات جداد،
وأقلام ملوّنة، وممحاة زاهية.
عيون الصغار لمعت كي النجوم،
قالولها: «يعيشك يا معلمة، ربّي يحفظك».
وبدات تعلّمهم حروف وأرقام،
بصبر، وبضحكة، وبقلب سلام.
تحكيلهم قصص على جدودنا،
وعلى تاريخ بلاد ما ينساش.
وفي وقت الراحة، يلعبوا في الساحة،
تحت شجرة التوت الكبيرة.
ضحكهم يعمّر المدرسة حياة،
وصوتهم يوصل حتى للدار البعيدة.
لكن صباح واحد، دخلت فاطمة للقسم،
لقات الخزانة محلولة… والكتب ناقصين.
ثلاثة كتب غابوا بلا أثر،
والقلب دقّ، والسؤال كبر.
قالت في سرّها: «شكون يسرق كتاب؟
وعلاش؟ شنوّة الوجع اللي يخليه يعمل هكا؟»
وما حبّتش تزرع خوف ولا شكّ،
كمّلت نهارها، وكتمت القلق.
غدوة، كتابين آخرين اختفوا،
وبعدهم، ثلاثة، وسكات القسم ثقل.
فاطمة فهمت: المسألة أعمق،
وقرّرت تعرف الحقيقة بلا ظلم.
قعدت بعد الخروج، تراقب وتستنى،
تحب تفهم قبل ما تحكم.
لكن الهمس سبقها للقسم:
«محمد فقير… يمكن هو»،
«لا، رضا دايمًا يخبّي»،
«ولا سالم، سكوتو مقلق».
القسم تعكّر، والقلوب ارتجفت،
وفاطمة حسّت الوجع يتسلّل.
قالتلهم بحزم، وصوتها حنون:
«يا صغاري، الشك سمّ، والظلم ما يداويش».
«اللي محتاج يقول،
واللي موجوع ما يتخبّاش.
إحنا هنا باش نكونوا مع بعضنا،
مش باش نكسروا بعضنا».
نهار الأربعاء، نهار السوق،
مشات فاطمة تشري خضرة من عند عمّي الطاهر.
وعند بياع خردة في طرف السوق،
لمحت كتاب… كتاب من خزانتها.
سألتو بهدوء: «من وين جاك هذا؟»
قال: «ولد صغير باعوهولي… محمد،
ولد لالة نعيمة، المسكينة».
رجعت فاطمة بخطى ثقيلة،
مشات لداره قبل ما تحكم.
دار صغيرة في طرف القرية،
بابها قديم، وحيطانها تعبانة.
دقّت الباب بلطف،
فتحت لالة نعيمة، وجهها شاحب ومتعب.
في الداخل، المرض ساكن،
ومحمد جنب أمّه، يمسح دموعها.
قالت الأم بصوت مكسور:
«سامحينا يا معلمة… ولدي غلط.
باع الكتب باش يجيبلي دوا،
ما عندناش غيره».
محمد بكى، وتعلّق في فاطمة:
«سامحيني… خوفت نطلب».
ضمّته فاطمة لصدرها،
وقالت: «الوجع ما يتسرقش، يتقال».
غدوة، جمعت الأطفال،
وحكت الحكاية بلا زيادة ولا نقصان.
العيون دمعت، والقلوب فاقت.
قالت حليمة: «نعاونوه».
رضا قال: «نعطي اللي نجم».
سالم قال: «بابا عندو دوا».
واحد واحد، صار الخير يجمع،
فلوس، دوا، أكل، ودعوة من القلب.
مشاو لدار محمد، كالنمل،
وحطّوا الرحمة قدّام الفقر.
لالة نعيمة بكت من الفرح،
وقالت: «ربّي يحفظكم… إنتوما النور».
فاطمة رتّبتلها موعد عند الطبيب،
والأم بدات تسترجع النفس والأمل.
في المساء، تحت شجرة الزيتون،
القهوة دارت، والمقروض توزّع.
الحكاية خرجت من القسم للقرية،
وصارت درس لكلّ كبير قبل الصغير.
وفي ليلها، كتبت فاطمة في دفترها:
«التعليم مش كتب وبرك،
التعليم قلب يسمع،
وعين تشوف اللي ما يتقالش».
طفات الشمعة، ونامت مطمئنة،
والكتب رجعت للخزانة.
محمد رجع للقسم مرفوع الراس،
وأمّه بدات تشفى شوية بشوية.
وفي عين الكرمة،
بداو يقولوا:
«المعلمة فاطمة… ما تعلّمش برك،
تربّي القلوب».
✍️ محمد الحسيني — لبنان

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق