هل هو الرحيل؟
د. كرم الدين يحيى إرشيدات
سمعتُ أصواتًا تدوي في رأسي،
أصواتًا ذات صدى مضطرب،
لا أدري أكانت صراخًا أم بكاءً،
لكنني كنت موقنًا بأنها صوتها.
نعم… صوتها هي،
لا تخفى عليّ نبرتها،
لكنها هذه المرة كانت مختلفة.
سمعتها تقول:
"يا يحيى… أنا راحلة".
لا أدري أي جواب تسعفني به اللغة،
وأنا لا أعرف من حروفها إلا كلمة: "حبيبتي".
قلتُ: حبيبتي…
لو سمعتك قبل الآن،
لمددت يدي لأوقف رحيلك،
ولقلت لك:
كيف يمضي مَن كان وطنًا لروحي؟
كيف يغلق الأبواب على نفسه،
ويترك قلبي في العراء؟
إن كان قلبك أنهكته المعارك،
فدعيني أكون هدنتك…
وإن كانت شمسك تميل إلى الغروب،
فسأكون قمرًا يؤنس ليلك حتى تعود.
لا تختفي من الطرقات،
ولا من الذاكرة والحكايات،
فأنا لم أتعلم المشي إلا بخطواتك،
ولم أعرف نفسي إلا في عينيك.
ابقَ… ولو بصمتك،
فغيابك ليس فراغًا فقط،
بل انطفاء عالمي كله.
حبيبتي،
ماذا يعني الغياب بالنسبة إليك؟
هل هو امتحان لتعرفي قدرك عندي؟
أم هو الغياب والرحيل من أجل الرحيل؟
أم هو هروب من نفسك ومني؟
الرحيل يقتلني،
وأنت تضعي السكين على مقتلي.
حبك هو نقطة ضعفي وقوتي بآنٍ واحد،
ضعفي بأن رحيلك هو يوم مقتلي،
وقوتي بأنه زاد إصراري وتعلقي بأمل الغد الأفضل لكلينا.
حبيبي…
لو كان الغياب امتحانًا،
فقد عرفت قدري عندك
منذ أول دمعة سقطت من عيني وأنا بعيدة عنك.
ولو كان الرحيل من أجل الرحيل،
ما كان لقلبي أن يطاوعني على تركك.
أنا لا أهرب منك…
بل أهرب إليك،
حتى حين أبتعد.
اعلم أنني حين أضع السكين على مقتلك،
أضعها على قلبي أولًا.
حبك ليس فقط قوتك وضعفك…
هو حياتي كلها،
فلا غد أجمل لي إن لم تكن أنت فيه.
حبيبتي،
أنا اليوم مثل طفل صغير
يبكي في زوايا الحرمان.
لا شيء في الدنيا هدني أكثر من الرحيل.
كنت أتوقع أن مرثياتي قد انتهى زمنها،
ولكنني لم أكن أدرك ما الذي تخبئه لي الأيام.
حبيبي،
لو تعلم كيف هزّني وجعك،
لضممتك إلى قلبي حتى ينام فيه حزنك.
أنا لم أرحل عنك،
بل تركت قلبي عندك يرعاك في الغياب.
الأيام قد تخبئ لنا ألمًا،
لكنها تخبئ أيضًا لقاءً
يمحو كل دمعة،
ويعيدنا كما كنا…
بل أجمل.
حبيبتي،
قبل لقائك،
كنت أُصادق الزقاق،
والوحدة صديقتي،
كنت معتادًا على البرد والجوع والوحدة،
كنت أنيس الليالي الموحشة،
وأبثها وجعي وآهاتي،
كنت معتادًا على اليأس،
وكانت المحن تتوالى على عالمي من كل اتجاه،
رسم الصيف خطوطه على ملامحي،
والشتاء أضاف تفاصيل جديدة لتفاصيلي،
كنت معتادًا على كل هذا،
ولم تستطع الأهوال كبح جماحي،
ولكن…
بعد أن عرفتك،
وبعد أن عشقتك،
وتعلقت روحي بك،
ما عدت قادرًا على حياة الوحدة مرة أخرى.
حبيبي،
كيف لي أن أسمع هذا البوح ولا تهتز روحي بكاملها؟
وكيف لي أن أعلم أنني كنت دفئك بعد برد طويل،
وأنني كنت ملاذك بعد وحدة قاسية،
ثم لا أضمك أكثر إلى قلبي؟
أقسم…
لو استطعت أن أكون لك صيفًا لا ينتهي،
وشتاءً لا يعرف القسوة،
لفعلت،
ولو استطعت أن أزرع في أيامك الفرح بدل الصمت،
لفعلت.
إن كنت قد تعودت على الوحدة من قبل،
فأنا تعودت منذ عرفتك
أن الحياة لا تُطاق إلا بك.
حبيبتي،
إن كان عتابًا فلك العتبى،
ولكني أسألك بحق ما بيننا من ألفة
أن لا تغيبي،
فبعدك ورحيلك يقتلني.
حبيبتي،
لو كان للعتب مكان، فأنت وحدك تستحقينه،
ولو كان للدلال عنوان، فأنت عنوانه في قلبي.
لكنّي أرجوك، لا تذهبي بعيدًا،
فالغياب منك هو موتي الذي لا أستطيع تحمّله،
ورحيلك هو فصل يُغلق كتاب عمري قبل أن يُكتب.
ابقَ قربي، فبدونك تذبل روحي،
وأنا لا أريد للحياة أن تكون سوى قصة حب تُروى بحضورك.
حبيبي
د.كرم الدين يحيى إرشيدات
الاردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق