غصّة أشواق
د. كرم الدين يحيى إرشيدات
كثيرًا ما تتصاعد الأوجاع من أعماقنا، فتتوقف عند حناجرنا،
لا هي تخرج لتخفّف شيئًا من كبتنا،
ولا هي تبقى لتزيد من معاناتنا.
أحيانًا يصعب الحديث،
بل كأنّ شيئًا لم يعد يُقال…
أن تتألم وحدك،
وأنت ملقى في زاويةٍ معتمة، تلك هي المعاناة في جوهرها.
وأن تقول إنّ فلانًا أو علانًا يعيش ألمك، فتلك الترهات بعينها،
فلا أحد يشعر بما تشعر،
والوجع لا يصيب إلا صاحبه.
نعم… أحيانًا يُصبح الكلام عبئًا،
ويغدو الصمت وطنًا نتوارى فيه عن قسوة العالم.
الألم حين تعيشه وحدك يتحوّل إلى غربةٍ داخل نفسك،
إلى زوايا معتمة لا يصلها أحد.
لكن رغم كل ذلك،
يبقى لوجودك معنى،
وصوتك الداخلي هو الشاهد على وجعك،
وهو الذي يحفظ إنسانيتك من الذبول.
ليس كل ما يُقال عن المواساة ترفًا،
لكن كثيرًا منه يخطئ القلب الذي يتألّم…
نعم،
هناك من يفتقدنا بصمت،
من يخبّئنا بين صفحات الصور القديمة،
ويبتسم كلما مرّ طيفنا على خياله،
لكنهم مثلنا يخافون البوح،
فيتركون الأشواق تتناثر بين أنفاس الليل.
وإن لم يكن أحدهم ينتظرنا هناك،
فحسبنا أنّ أرواحنا ما زالت تُصلّي في فضاء الوحدة المريرة،
تدعو للذين مرّوا بنا فتركوا فينا أثرًا لا يُمحى.
تركوا بأجسادنا ندوبًا وجراحًا غائرة
لا تشفى.
وأحيانًا تمسّ الكلمات القلب قبل أن تُقال،
كأنّ الروح تُرسل إشارتها في صمتٍ عميق،
تستغيث وترتجي في فضاء هذا الكون الواسع
علّها تلتقي من نألف وجوده،
فنحسّ بالشوق دون لقاء،
ونبتسم لذكرى عابرة وكأنها ما زالت تعيش فينا.
ليس الوجد إلا مرآة الحنين،
تعكس وجوه من أحببنا مهما ابتعدوا،
وتهمس لنا:
ما زال الأثر حيًّا، وما زال في القلب مكان لا يملؤه سواهم.
ترى… هل هناك من لا يزال يذكرنا؟
ويقلب صورنا في خزائن ذكرياته؟
الوجع لا يُكذب ولا يُفسَّر،
فبعض الصمت أصدق من ألف حديث،
يا لروعة ذلك الصمت حين يشي بكل ما لم يُقَل...
يشي بأوجاعنا دون أن نفصح عنها
كأنّ الأرواحَ خاضت معركتها الأخيرة دون صراخ، ورفعت الراية البيضاء أمام تعب الحنين.
ما أقسى أن نمضي ونحن باقون، أن نرى ملامحَ الحبّ في الذاكرة،
لا في العيون...
أن نصافح الذكرى بدل اليد، ونبتسم لتاريخٍ جميلٍ صار يوجِع أكثر مما يُفرِح.
ربما لم نخطئ، وربما لم نُحسن البقاء، لكننا أحببنا بصدقٍ يكفي لأن يُخلّد لحظةَ الوداع في الزمن...
فهكذا تنتهي الحكايات التي كُتبت بالحسّ لا بالحبر، تموت واقفةً، كزهرةٍ رفضت أن تذبل أمام من أحبت.
وبعض الزوايا المعتمة تسكنها أرواح أنهكها الضوء.
نعم، لا أحد يشعر بما نشعر،
فالألم فرديّ،
والوجع بصمة لا تتكرّر.
لكن، رغم كل العتمة،
يبقى في القلب ضوء صغير
ينتظر من يُنصت إليه
د.كرم الدين يحيى إرشيدات
الاردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق