(أنا وقصصي وبلبل /الجزء الثاني )
لم يمضي وقت طويل حتى أخذ هاتفي يرن في جيبي، كنت على وشك إنهاء طعامي، تبا! فضحتني نغمة الأغنية (محروس من عين البشر ،وأولهم عيوني، باردة عيوني عليك) راح بعض رواد مطعم إم كلثوم في شارع الرشيد يتطلعون صوبي، ثمة من ابتسم في وجهي بصورة فاضحة وكأنه يقول، انظروا رجل تجاوز الخامسة والأربعين من عمره ومازال العشق يطل من عينيه! احمر وجهي وانا اسحب المقعد للخلف ثم بخطوتين كنت عند المغاسل، ما أن فتحت صنبور الماء حتى عاد كاظم الساهر يصدح بذات المقطع من جديد ، همست في أعماقي وانا اغسل يدي وفمي بسرعة، حقيرة يابلبل! تطلعت لجانبي، كان ثمة شاب مدور الوجه بشاربين إحتلا نصف وجهه، قال :
-الشباب شباب الروح والقلب. حدقت فيه بطرف عيني، اللعين اصابته عدوى كاظم الساهر ،راح يدندن المقطع وهو يعدل من وضع ثيابه في المرآة الكبيرة أمامه. دفعت الحساب بسرعة، شعرت بأني سأموت حياءا لو إنها اتصلت وانا مازلت في المطعم،مشيت بسرعة وامسكت الهاتف بيدي، خفق قلبي، إنها تتصل :
-ها ولك -اثارتني بكلمتها هذه وكأني مازلت ولدا مراهقا - وين انتة! وليش مترد!؟ وجدت نفسي أضحك، تخيلت قرصات اصابعها في خاصرتي، قلت لها وأنا الهث :
-حبيبتي، حياتي إنتي، سلمت الفايل واتفقنا بعد أسبوعين ينطوني الجواب. قاطعتني،-كان صوتها غاضبا -قالت :
-شنو أسبوعين، أصلا همة الخسرانين، وين يلكون مثل قصصك واسلوبك، فديتك، يروحولك فدوة شلع قلع. أخذت تضحك الآن، ياربي كم فاتنة ضحكة بلبل، قالت :
-روح ارتاح، ولاتدخن ترى اشلع أذنك، ولتمشي حيل، اسمعك تلهث حبيبي، مو زين على قلبك، أحبك. توقفت حال سماع كلمتها الأخيرة، حتى إني اصطدمت برجل كان يسير خلفي، ابتسمت له معتذرا، قلت لها :
-موعدنا الثلاثاء كالعادة في حديقة الزوراء، لقد وعدتيني بأن تريني حديقة الحيوانات، قد أكتب عنهن مستقبلا!. همست قبل أن تنهي مكالمتها :
-اللي تريدة يصير، هسة روح ارتاح عفية، سلام حبيبي. أمسكت بأصابعها ونحن نعبر الشارع المزدحم بالسيارات، كانت بوابة حديقة الزوراء الكبيرة تطالعنا ونحن نحدق بها، وكأنها تقول، آه، هاهما أطيب عاشقين. شرحت لها ونحن نمشي صوب بحيرة طيور النورس كل شيء، لم تنبس بأي حرف، كانت تنظر في عيوني وهي تبتسم طول الوقت، كانت السماء حينها ملبدة بالغيوم، قلت لها :
-تعالي نجلس هناك تحت تلك المظلة -أشرت بأصبعي لواحدة قريبة تحيط بها ثلاثة مقاعد- قد تمطر فجأة ياحبيبتي. أمسكت بيدي اليمنى، قالت وهي تجذبني صوب البحيرة الساكنة :
-إذا حدث وامطرت، عندها سأختبىء هنا ،بين أضلعك. قالت هذا وهي تدس اصبعها بين ضلوعي، احطت بكتفها، رحنا نستنشق هواء البحيرة، قالت :
-عندما نتزوج أحب المكوث معك في البيت، في مثل هذا الطقس، الله، سأشعر براحة عجيبة اذا جلسنا في حديقة بيتنا الصغير واحطت بكتفي هكذا، هل ستفعل حبيبي!؟. اشتدت اصابعي على كتفها، همست لها :
-دوما ياحبيبتي، دوما يابلبل. مدت اصابعها في جوف الكيس الذي يحتوي على بعض الشطائر، قالت وهي تخطو بقدميها الصغيرتين للامام :
-تعال ساعدني لنقدم وجبة خفيفة للنوارس، لاتنسى إنك ذكرتها في بعض قصصك، ها، بخيل تعال يللة. تبعتها وأنا أضحك، أمسكت بيديها، كانت ممتلئة بفتات الصمون، اختلست بسرعة بعضا منه وطوحت بيدي بسرعة، هتفت :
-خبيث، سبقتني. سقطت بعض قطرات المطر، رفعت وجهي للسماء، ياه، ستمطر بقوة اكيد، أمسكت بأصابعها، قلت :
-هيا بلبل، سنتبلل، أخاف أن تمرضي. سحبتها خلفي وانا احدق في المظلة، واصلت رمي الفتات وهي تضحك وتقول :
-جبان، تهرب من المطر،أنظر النوارس لاتهرب، إنها مسرورة وتزعق من السعادة. جذبتها هذه المرة بقوة، كان قطرات المطر قد إزدادت كثافة، اصطدم جسدها بصدري، راحت تتنفس بقوة وهي تكاد تخترقني بنظراتها، حدقت في فمها الصغير الذي بلله المطر، تنهدت بقوة ، راحت تضحك ،وهي تنقاد بسهولة لجذب يدي. أخرجت بعض المناديل الورقية من حقيبتها،التصقت بي وأخذت تمسح آثار المطر عن وجهي ورأسي، سمعتها تهمس :
-فديتة حبيبي الأصلع. كورت المناديل بيدها ثم وضعت كيس الشطائر على الطاولة المستديرة، قالت وهي تفتح علبة عصير البرتقال وتضعها أمامي :
-شنو تحب تاكل! فلافل لا، مو زينة عليك، كباب! هم مو زين على قلبك، كلة دهون، هاك هاي شطيرة فول، سويتة بالبيت علمودك. وضعت الشطيرة المتخمة بالفول الذي اعشقه أمامي، رغما عني سال لعابي! ضحكت وهي تقضم بفمها الصغير من شطيرة الكباب ،همست :
-سويتلك شطيرتين كبار، يللة فديتك اكل هاي حتى انطيك الثانية،ترة أخلص قبلك وآكلهة. غمزتني بعينها، وهي تحدق في ملامح وجهي السارحة بفمها العذب، قالت :
-لتباوع على حلكي، استحي ولك. مدت اصابعها، كادت أن تقرصني في خاصرتي، قلت لها وأنا ارفع علبة العصير بيدي :
-أموت على هذا الفم الزغيروني، فديت البلابل. اكتسى وجهها بحمرة خفيفة، كان بوسعي رؤية ذلك، اشاحت بنظرها جانبا، رحت احدق في صفحة عنقها وأنا أحاول عد الشامات بسرعة، التفتت فجأة صوبي ورفعت حاجبها ثم ضيقته، قالت :
- لتبقى صافن علية، أريد تاكل كل هذا -أشارت لشطيرة الفول - بعدين أريد تحجيلي عن قصصك القادمة وعن أم دار النشر، هية حلوة مو!؟. قالت ذلك فكدت أشرق بالعصير الذي راح يسيل من زاوية فمي. (يتبع)
بقلم /رعد الإمارة /العراق
24/2/2020