رشفْتُ رحيقها
..
رشفْتُ رحيقَها من غير كاسِ
فرحتُ منادمًا لأبي نواسِ
أرتني الليلَ صبحًا من سناها
تبلّجَ بين محسيٍّ وحاسي
فدبَّ دبيبُها في القلب حتى
رأيتُ النمل يسحبنَ الرواسي
ورشْفتُها تعيدُ المَيتَ حيًّا
كماءِ المزنِ للأرضِ اليباسِ
إذا أبدت لها الأكوابُ حبًّا
تبادرها النواظرُ باحتراسِ
ومن بسماتها تبدي رجاءً
عن المهمومِ يطردُ كلَّ ياسِ
فشمْ منها إذا نلتَ اختلاسا
فماطيبُ الحياةِ سوى اختلاسِ
يعودُ الشيخُ كهلًا حينَ تبدو
ويركبُ في فداها كلَّ باسِ
ترى البدرَ المنيرَ إذا تدانى
لقربِ الصبِّ يهفو لانغماسِ
ولو طُلبَ الغلاءُ لها مهورًا
فزدْها قاليًا كلَّ المِكاسِ
وما بنتُ الكروم دهتني لكن
ظباءٌ قد تبدّت من كِناسِ
ببنت شفاهها تصبي حليمًا
فيركبُ للردى قبل العطاسِ
فيلقى في شدائدها سهولًا
وقد عاش الفتى كل ابتئآسِ
ومَن ركب الشدائدَ في حسانٍ
يرَ الأعيادَ في اليوم العباسِ
وتسلبهُ الكياسةَ حين يهوى
ومَن يهوى بألبابٍ كياسِ
فإما أن يموت بموتِ عزٍّ
وإما أن يعيشَ المجد راسي
ومَن يسلمْ من العيناءِ نفسًا
رعاهُ الأمنُ في الحربِ الضِراسِ
ومَن يقوى على سحرٍ بطرفٍ
تطايرُ عند نفثتهِ المراسي
فلولا العينُ ما راقت شموسٌ
ولا طابت من الدهر الأماسي
وهل خمرُ التجار أشدُّ فتكًا
من العيناءِ في حكم النطاسي
يطيبُ المسكُ و الشهدُ المصفَّى
إذاما صُبَّ في ريقِ الخُناسِ
إذاماالعودُ لامسها ثغورًا
يكاد العودُ يورقُ بالمساسِ
إذاما ذاقهُ يومًا تراءت
له الجناتُ في أزهى المكاسي
أحورٌ قد تراءت لي وإني
لأحسبُ أنّها حورُ الأَناسِي
تعتّقُ في الخدور الدهرَ رغدًا
فلا حرًّا ولا قرًا تقاسي
على أحداقها يعلو نعاسٌ
يراودها وما هو بالنعاسِ
ولكن منتهى آجالِ صبٍّ
إذاما أعرضت عنه المآسي
رمته بطعنةٍ نجلاءَ فردٍ
تكلَّم من لواحظها الحماسي
كأنّ رموشها نبلٌ ترامت
بها الأجفانُ أنكى من قياسِ
فترديه لواحظُها قتيلًا
ولو قرن السوابغَ بالتراسِ
فإن تجفُ المحبَّ فلن تراهُ
سوا بالٍ كأطلالٍ طِماسِ
رحيقُ التجْرِ قد ينسى ولكن
رحيقُ الغيد لا ينساهُ ناسي
فلو أنَّ الصخورَ حملْنَ حبًّا
لبادرتِ الصخورُ بالانبجاسِ
ولو أبدى الفتى حبًّا تراها
عتاقَ الخيلِ لجَّتْ بالشماسِ
وقال الناصحون إذا تناءت
يزيدُ العشقُ لو حلَّتْ بفاسِ
أتنساها وقد أشقتْكَ حبًّا
وقد نزلت من الروحِ الأناسي
تقلّبتِ القلوبُ وربَّ قلْبٍ
على عهد الأحبَّةِ كالرواسي
تجانسَ في الهوى الروحانِ منّا
فهل ينسى الفتى روحَ الجناسِ
ومارستُ الشدائد كلَّ دهري
وكنتُ إخالُني صعبَ المراسِ
فما أعلنتُ فيهنَّ انهزامًا
سوى العيناءِ تعصبُها براسي
رفعتُ الرايةَ البيضاءَ سِلْمًا
بقيتُ الفردَ من بين الأُناسِ
وإن ثكل الفؤاد أتاهُ دمعٌ
إلى الأضلاع تسليةً يواسي
تناستْنا ببعدٍ أمُّ عَمْرٍو
ولم أهممْ ولا هجسَ التناسي
فياللهِ من بلوى دهتني
بها كان ارتكامي وابتئاسي
كأني بالندامة يوم بانت
نوارُ تضرَّمَت بأبي فراسِ
كأنّ الشوقَ للعيناءِ نارٌ
تضرّمُ في الحشا دون اقتباسِ
فلو كان الهوى طوعًا سلاهُ
ولكنْ صُبَّ في أصل النُحاسِ
فمَن لكَ في الهوى يفدي أسيرًا
كما فادى ابن عبدةَ أسرَ شاسِ
وحسبُ الصبِّ أن يلقى حبيبًا
إذاما رُدَّ عن طيب اللماسِ
سقى الدارَ التي ضمّت حبيبًا
سحابٌ قد تراكمَ ذو ارتجاسِ
...
الشاعر عبدالقادر الموصلي