(قصة قصيرة / رحلة إلى العالم السفلي / ربيع دهام)
وقف سقراط، المحب الأبدي للسفر، على تخوم جِسر الحقيقة، الفاصل
بين جزيرة وجزيرة.
وهناك، قبل أن تطأ قدماه سطح الجسر، سدّ طريقه الحارس أفلاطون.
"ماذا أتيتَ تفعل هنا؟"، قال.
أجابه سقراط: "أنا الذي أسأل وليس أنت. ألم تقرأ عني في كتب التاريخ؟
أنا ما جئت هنا إلا لأجل الحقيقة، فهيّا. أفسِح الطريق للحقيقة ودعني أمر".
أجابه أفلاطون: " لن أدعك تمر إلا إذا قلتَ الحقيقة. فإن كذبتَ عليّ في شيء، رميتك من فوق الجسر، وإذا صدقتَ، مررتَ. والآن هيّا قُل".
فكّر سقراط قليلاً. حدّق في عيني أفلاطون، ثم همس:
" أنتَ سترميني من فوق الجسر".
تفاجأ أفلاطون بما قاله سقراط.
ارتبك، وراح يفكّر في الأمر. هي أحجية يصعب حلّها.
فإن رماه، كما قال سقراط، يكون الرجل الذي أمامه قد قال الحقيقة.
ولأنه قال الحقيقة، عليه هو، أي أفلاطون، أن يدعه يمر، لا أن يرميه.
أما إذا لم يرمه من فوق الجسر، فهذا يعني أن سقراط كان يكذب،
بما أنه قال لأفلاطون:
" أنت سترميني من فوق الجسر".
وإذا كان سقراط يكذب، وجب على أفلاطون رميه مِن فوق الجسر، لا تَركه يمر.
احتار أفلاطون في الأمر ولم يعرف ماذا يفعل.
هذه أول مرة يرى نفسه عاجزاً عن حل مفارقة فكرية.
وحين يئس، رفع المنشفة البيضاء ورماها. ثم سار إلى منتصف الجسر.
توجّه نحو الحافة، وقف عليها، ورمى نفسه من هناك.
وما كاد يصل النهر العظيم، حتى قطعت طريقه سفينة، صودف مرورها من تحته. فارتطم بها.
وهناك، على سطح السفينة اقترب منه رجل ذو لحية طويلة بيضاء،
وقال : " أأرسلك الله إلى هنا؟".
متألماً من الإصطدام، حاول أفلاطون الوقوف. نجح أخيراً في مبتغاه.
" لا. أرسلتني حماقتي إلى هنا"، أجاب.
ولمّا استقام جسده، حدّق في عيني الرجل وسأله:
" ومَن تُراك تكون أيها الرجل العجوز؟".
أجابه العجوز: "أنا نوح. وهذه سفينة الإنقاذ".
"إنقاذ؟ إنقاذ ماذا؟"، سأله أفلاطون.
" إنقاذ الحياة"، قال نوح.
احتار أفلاطون في الأمر.
وهو، القارىء النهم ، كان قد قرأ عن سفينة نوح.
لكنها قصة قديمة وليست معاصرة.
وفي خضم التفكير المعتاد عليه، راح يستذكر أحداث القصة.
وما إن انتهى من عصفه الفكري مع نفسه ، الشبيه بالإمواج العاتية التي راحت تعصف بالسفينة آنذاك، كما كتب السومريون، وجّه ناظريه نحو العجوز وقال :
" لقد أنقذتها مرةً من قبل، لكن ها هي الحياة في طريقها مجدداً إلى الزوال. ومن السبب؟ الإنسان. نعم. الإنسان هو السبب. أتعرف؟ كان عليك أن لا تستقبل على سطحها أي إنسان. وكان عليك أن تقتل نفسك أنت أيضاً ".
ضحك نوح وقال: " وما فائدة الحياة من دون إنسان؟ ما معناها؟ ما قيمتها؟ ألستَ أنت الذي كتبتَ عن المدينة الفاضلة؟ وماذا تعني الحياة من دون بيكاسو وبيتهوفن والمتنبي وغاندي؟".
زجره أفلاطون قائلاً : " نحن معشر الفلاسفة لسنا متحجّري الفكر. نغيّر رأينا ونصحّح أفكارنا إذا ما وجدناها دون جدوى. أنت تتكلم عن أناس فاضلين
وأنا أتحدث عن المدينة الفاضلة.
لا! لا توجد على هذه الأرض مدينة فاضلة. قد تكون فاضلة وهي طفلة.
أما في الطريق إلى شبابها وبلوغها، تزيح المدينة الفاضلة عن جدرانها كل براءتها وبساطتها، وتترنّح وتصبح امرأة مغرورة وشهوانية وشيطانية. وعابدة للجاه والمال، مثل كل الرجال".
وفي أثناء الحديث، صودف مرور كانغارو أمامهما.
ولمّا رآه أفلاطون، حدّق في نوح وسأله :
" وماذا يفعل هذا هنا؟".
"ماذا تقصد ماذا يفعل؟"، قال نوح.
"أقصد كيف سبح هذا المخلوق من أستراليا ليصل إلى السفينة؟"
احتار نوح في الأمر: " أستراليا؟ ما تعني أستراليا؟ لم أسمع بهذا الإسم".
قهقه أفلاطون وقال : " تريد أن تنقذ الحياة ولا تعرف ما هي أستراليا؟".
أجابه نوح: " ربما هو مجرّد إسم. لكن ما يعنيني أنا هي الحياة لا الحروف. في النهاية كلنا أبناء الله".
ضرب أفلاطون بقدمه الأرض وصرخ :
" لا!...كلنا أبناء الرزيلة لا أبناء الله. ويجب أن نفنى. وأنا واحد منهم.
ولكي أثبث لك ذلك، سأرمي الآن بنفسي من هذه السفينة".
صرخ نوح محذراً: " لا! لا! وماذا ستفعل تحت في العالم السفلي؟
أنت ابن خير. وتحت لا يوجد سوى أبناء الشر؟".
"أبناء الشر فوق...على الجسر، لا تحت "، قالها أفلاطون ورمى نفسه من السفينة.
وما إن وطأ جسده أعماق النهر، حتى رأى ملايين الرؤوس والأجساد البشرية، مع زعانف بدل الأقدام، تتجه نحوه.
صرخ بالرؤوس البشرية : " ماذا تريدون مني؟".
أجابته الرؤوس: " أيها الإنسان المغرور. نحن أصلك وها أنت تعود إلينا".
سمع أفلاطون جوابهم. ابتسم وقال : " صحيح. وكم كنّا نحن مخطئين. ويا ليتنا. يا ليتنا لم نتطوّر".
ما إن قالها حتى راحت تنبت له زعانف مكان القدمين. وخياشيم بدل الرئتين.
فجأة، يدٌ بشرية، تأتي من فوق الماء ، تمتد إليه ، وتحاول إنتشاله.
صاحت اليدُ : " يا إنسان. أنت ابن آدم لا سمكة. ومكانك فوق لا تحت".
يدٌ أخرى تنقض عليه من الأعماق، تقترب منه وتحاول شدّه نحو الأسفل صارخة :
" لا. لا تنصت لليد العليا. أنت ابن سمكة لا إبن آدم،
ومكانك هنا تحت، وليس فوق".
وراحت اليدان تتعاركان فيما بينها على أفلاطون.
يدُ آدم ويد السمكة. يدُ المسكة ويدُ آدم.
وفجأة، في خضم المعركة، انشطر أفلاطون إلى نصفين. عقله ونصفه الأعلى، صعدا إلى النور. أما نصفه الاسفل، فانحدر إلى الأعماق.
وفي رحلة صعود النصف الأعلى، رأى أفلاطون عن يمينه، رجلاً يكدّس
قطعاً من الخشبِ، ويضع عليها زعانف وأعضاء بشرية.
يبيعها ويقبض ثمنها.
ولمّا اقترب من أفلاطون أحد الرؤوس البشرية بزعانف،
سأله أفلاطون : " من هو ذاك الرجل؟".
أجابه الرأس: " هو مالك البنك البرمائي الأول".
"ما إسمه، وماذا تراهُ يفعل؟".
" هو تاجر دنيء. وإسمه يهوذا"، قال الرأس.
"يهوذا؟ ومن أين أتى بالخشب في نهر عظيمٍ كهذا؟"، سأله أفلاطون.
ضحك الرأس وقال : " مِن سفينة نوح".
" سفينة نوح؟!"، صرخ أفلاطون للوهلة الأولى غير مصدقٍ.
ولما عاد عقله إلى دفة القيادة، أكمل مسلسل أسئلته :
"وأين سفينة نوح؟".
" سفينة نوح أغرقها يهوذا، وهذا حطامها "، قال الرأس.
" غرقت؟! وأين نوح؟!".
تغيّرت ملامحُ الرأس حتى بان الحزن في عينيه.
أجهش بالبكاء وصاح: " نوح؟! ذاك الذي تراه مصلوباً على أكوام الخشب
هو جسده المقطّع. وهذه أعضاءه. يبيعها يهوذا ويرمي عظامه للكلاب".
" كلاب؟ لكن لا توجد كلاب في العالم السفلي هنا"، قال أفلاطون.
" أعرف"، أجاب الرأس.
ثم أسترسل في الحديث : " يومياً تأتي سفينة ، بقيادة قبطان عجوز.
يشترون الخشب والأعضاء البشرية من يهوذا. يأخذونها إلى عالمهم.
يسيّلونها إلى نقودٍ، ثم يبيعونها، على شكل قروضٍ، عبر البنك الدولي، إلى جميع أنحاء العالم. يغرقون الدول بالديون ليحكموا قبضتهم عليها".
" رجل عجوز؟ ما إسمه؟"، سأله أفلاطون.
" لا أعرف بالضبط . لكن ينادونه العم سام".