مِن خلف مكتبِهِ المكدّسة فوقه حُزَم الأوراق.
ومن بين تلّتي الكتب، اللتان تشبهان برجَي نيويورك قبل أن تدمرهما المخابرات الأميركية، أطلّ برأسه مصوّباً ناظريه نحو الطالب الشاب الواقف أمامه، ثم أفشى:
" هل تعرف أن التفاحة الحمراء ليست بحمراء؟".
"ماذا؟"، لم يفهم الشاب شيئاً.
وقف الدكتور في علم النفس، والشغوف بالفيزياء. وتوجّه نحو السبّورة خلف المكتب. وبالطبشورة الحمراء أخذ يرسم تفاحة. ثم استدار نحو الشاب وسأله:
" أنت درستَ عِلم الألوان في مادة الفيزياء. أليس كذلك؟".
" نعم"، أجابه الشاب.
" إذن أنت تعرف أنّ الضوء المرئي ليس إلا خليطاً من الأطوال الموجية لألوان الضوء المختلفة، التي هي ألوان قوس قزح".
" نعم"، وافقه الشاب.
" وهل تعرف ما هي ألوان قوس القزح؟"، سأله الدكتور.
"أحمر، برتقالي، أصفر، أخضر، أزرق، نيلي، بنفسجي"، أجاب الشاب.
صفّق الدكتور بحماسٍ ظاهرٍ لا يخفيه كلما تكلم في أمور علمية، ثم قال:
" وأنت تعرف أن اللون الخارجي لأي شيء هو اللون الذي يعكسه، أليس صحيحاً؟".
أومأ الشاب برأسه موافقاً.
" وهذا يعني أن التفاحة، التي نقول عنها حمراء، هي كذلك لأنها استقبلت في داخلها كل ألوان قوس القزح عدا اللون الأحمر".
نظر إليه الشاب بإعجابٍ ثم ضحك.
ابتسم الدكتور وأكمل:
" يعني أنّ في تلك التفاحة كل الألوان باستثناء اللون الأحمر التي منعته من الولوج لداخلها".
تسمّر الشاب في مكانه من دون حراكٍ واضعاً سبّابة يده اليمنى على صدغه الأيمن.
وأخيراً، اقترب الدكتور من الشاب وهمس في أذنه: " في الحقيقة، إنّ التفاحة التي نسمّيها حمراء هي كل شيءٍ. كل شيءٍ إلا حمراء".
أطلق الشاب قهقهة طويلة ثم صاح بالدكتور:
" هذه يا دكتور معلومة مفيدة. مفيدة جداً. لكن بالله عليك، أريد أنا الآن أن أسألك".
" إسأل"، قال الدكتور.
"ما علاقة هذا بعلم النفس؟"، سألَ.
وضع الدكتور يده اليمنى على كتف طالبه وهمس:
" التفاحة الحمراء"
" التفاحة الحمراء؟!"، سأله الطالب مشتّت الذهن.
" تعال لأريك"، قال الدكتور.
وخرجا سوياً من الغرفة. ثم من المدرسة. وتوجّها نحو الشارع العام.
سارا نحو قاعةٍ فوق بابها الرئيسي يافطة كُتبَ عليها "المهرجان الأكبر".
دخلا القاعة، وجلسا في آخر صف.
قال الطالب: " ماذا أتينا نفعل هنا؟ وما علاقة هذا المهرجان بالتفاحة؟".
أجابه الدكتور: " ينال الظفر أكثر من صَبَرْ. أُصبُر يا بُني. أصبر".
وبعد دقائق ثلاث، عُزِف النشيد الوطني إيذاناً ببدء المهرجان.
وكانت قدمي الطالب، في تلك الأثناء، تهتزّان بعصبية كالذي امتلأت متانته بالسوائل، ولم يجد أي مكان لإفراغها.
ومن عمق الفراغ، في الجهة اليمنى من المسرح، انبثق النائب عن المنطقة، مترجّلا كهارون الرشيد نحو منبرْ العظمة.
مكبّرُ الصوت، المتكىء على وسادة القيلولة، ما إن رأى النائب، حتى انتصب، حمل معدّات المعركة، من سيفٍ إلى جوشن، وأخذ وضعيّة قتالية.
كدّس النائب في رئتيه الإرتوازيتين أنفاسَه، فأخذ صدره ينتفخ وينتفخ حتى تفتّق قميص بدلته، فخرج منها، وبعد طول انتظار، صوص كلامِهِ :
" باسم السيادة والحرية والإستقلال، نعلن بدء الإحتفال".
قهقه الدكتور عالياً وصاح بالطالب: "أرأيت؟".
تقطّب حاجبي الطالب وتوسّعت حدقتاه. لم يفهم شيئاً.
وفيما راحت تعلو أصوات الحشد المصفّق والمردِّد:
" حرية...سيادة...إستقلال..."، أجال الطالب بناظريه أرجاء القاعة دون أن يرى أي أثر لتفاحةٍ حمراء.
صاح بالدكتور: " أين؟ أين التفاحة الحمراء يا دكتور؟".
وما إن خرجت تلك الجملة من فمه حتى اصطدمت بكلمة "حريّة" طائشة، صودِف مرورها في الأثير،
في ذاك الزمان والمكان ، فعُطِبتْ وأعطبت.
وسقطت التفاحة مع الحريّة على الرخام وترنّحت. ولسوء الحظ والقدر، لم يكن إسحق نيوتن يجلس هناك كي يكتشف، بِفِعل السقوط اللعين، قانون الجاذبية المبين.
ولم يكن آدم موجوداً لكي يقرشها، ولا حوّاء لتشجّعه على ذلك.
بل ما كانت هناك إلا الأفعى، تشي بعقل الطالب، تقول له : " خرِفٌ جداً هذا الدكتور. أين التفاحة الحمراء يا تُرى؟".
أعاد الطالب السؤال: " أين التفاحة الحمراء؟".
وطارت الجملة من فمه، متوجّهة نحو أذُن الدكتور، لكنها قبل أن تهمّ بالنزول، أوقفتها كلمة
"إستقلال"، مهدِّدةً ومتوعِّدةً :
" أيها العنصر الغير منضبط، أطلبتَ إذن تجوّل من السفارة؟".
ولمّا هزّت الجملة رأسها بالنفي، صاحت الكلمة:
"هنا، حتى السمكة في السنّارة، ليس بإمكانها الخفقان إلا بإذن سفارة ".
وعادت الجملة أدراجها فوراً إلى فم الطالب معتذرةً.
لم يسمع الدكتور شيئاً.
فجأةً، توقّف التصفيق والتصفير والزغاريد.
اغتنم الطالب الفرصة وسأل أستاذه الدكتور:
"إين هي التفاحة الحمراء؟".
وانتظر جوابه.
صرخَ النائب المعتلي عرش المنبر :
" سيادة... حرية ...إستقلال" ،
فحدّق الدكتور في عيني طالبه وقال : " أرأيت؟".
" رأيتُ ماذا؟"، سأله الطالب.
صمت الدكتور لبرهة ثم أردف:
" ثلاث تفاحات حمراء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق