"أنا و 'روح' الغجرية في المولد"
كان الليل في القاهرة يتهيأ للدهشة.
الهواء ملبّد بروائح البخور والسكر والحناء ،
وأصوات المزامير ،
تتسلّق السلالم الحجرية القديمة كأفاعٍ مضيئة.
ظهر طارق من عتمة الزقاق ، بثيابه البسيطة ،
يحمل في عينيه سؤالًا لم يجد له اسمًا بعد.
كان يمشي ببطءٍ كمن يدخل إلى قلبه ،
لا إلى شارعٍ مأهول.
المولد يمتد أمامه كمشهدٍ من الحلم ،
ألوان تتراقص على أجسادٍ متعبة ،
نساءٌ يبعنَ الأسرار في أكياسٍ من الكراميل ،
أطفالٌ يركضون بخفة أرواحٍ لم تتلوث بعد ،
ورجالٌ ينامون على أرصفة الحكايات.
همس لنفسه :
"هنا لا أحد يخاف الحقيقة ، الجميع يرقص فوقها."
وقف عند بوابة المولد ،
حيث شيخٌ أعمى يقرأ الفاتحة بصوتٍ رخيمٍ يشبه المطر.
اقترب منه طارق وقال :
يا عمّي ، لمن تُهدي الدعاء؟
ابتسم الشيخ وقال :
لمن ضاع ولم يعرف أنه ضائع بعد.
ثم مدّ له مسبحةً من عظامٍ بيضاء وقال :
ستحتاجها إذا قررت أن ترى النور بعينك الثالثة.
طارق لم يفهم ، لكنه أخذ المسبحة ومضى.
من بين الخيام ظهر الغجر ،
كأنهم لحنٌ انبعث من رحم الأرض.
رجالٌ يضعون السلاسل حول معاصمهم لا كقيود ،
بل كأوسمة.
ونساءٌ بعينين كأنهما شمسٌ ترفض الغروب.
وملابس ملونة تضاهي ازياء بيوت الأزياء العالمية .
اقتربت منه 'روح' امرأةٌ غجرية ،
تضع حول عنقها عشرات الخرزات الملوّنة ،
وقالت له :
أنت لست من هنا ، يا رجل المدينة.
قال طارق مبتسمًا :
ولا أنتمي إلى هناك أيضًا.
قالت : إذن أنت منا.
الغجر لا يسكنون الأرض ، بل يسكنهم الرحيل.
سار معها إلى خيمتهم ، حيث رائحة القهوة المرة ،
وعودٌ يئنّ في زاوية الخيمة كأنه يبوح بسرّ الكون.
جلس بينهم ، وأحسّ أنه وسط قومٍ ،
يضحكون من وجعهم ، ويتعبدون بالرقص لا بالصمت.
قال شيخ الغجر :
نحن لا نخاف الجوع ، ولا نخاف الخسارة ،
لأننا لم نمتلك شيئًا قط.
وكيف تعيشون إذن؟
بالحب يا طارق.
الحب هو العملة الوحيدة التي لا تفقد قيمتها ،
حتى في السوق السوداء للأرواح.
طارق كتب هذه الجملة في دفترٍ صغير كان يحمله دائمًا ، وقال في سره :
"ربما جئت لأتعلم كيف أحبّ دون أن أملك."
" الليلة الكبيرة "
اشتعلت المزامير ، وارتفعت أصوات الطبول ،
وأُضيئت السماء بفوانيس كأنها نجوم بشرية.
وسط هذا الجنون الجميل ،
كان الذاكرون يدورون في حلقاتٍ من النور ،
والرقص يمتزج بالبكاء ، والضحك بالدموع.
طارق وقف وسطهم كمن يبحث عن حدوده.
أغمض عينيه، وبدأ يدور ، يدور ،
حتى صار الكون نفسه هو من يدور حوله.
في تلك اللحظة ، سمع صوتًا خافتًا يأتيه من عمق الموسيقى :
" يا طارق ، المولد مرآتك ، والغجر ظلك ،
لا تبحث عن الله بعيدًا عن الناس ،
ستجده في العيون التي ترقص حولك."
فتح عينيه فرأى كل شيء يذوب في نورٍ أبيضٍ كثيف ، كأن الحقيقة قررت أن تكشف نفسها لمرةٍ واحدة.
سقط على الأرض مبتسمًا ،
يضحك كطفلٍ وجد لعبته القديمة بعد ضياعٍ طويل.
في آخر الليل ، جلس طارق إلى جوار شيخ الغجر ،
رجلٍ بوجهٍ كالصحراء وابتسامةٍ كالنهر.
قال طارق :
يا شيخ، هل نحن أحرار؟
ضحك الشيخ وقال :
الحرية ليست في أن تفعل ما تشاء ،
بل في أن لا تُكره قلبك على الكذب.
وكيف يعرف القلب أنه يكذب؟
عندما يفرح بأشياءٍ لا يحبها ،
أو يحزن على أشياءٍ لم يفقدها.
صمت طارق طويلًا ، ثم قال :
أظنني فهمت ، كنتُ أعيش نصفَ حياةٍ ،
لأنني كنتُ أقول نصفَ الحقيقة.
ومن الليلة، يا طارق ، ستبدأ الحياة كاملة ،
لأنك أخيرًا التقيت بنفسك.
قادته الغجرية 'روح' إلى خيمةٍ تُسمى "خيمة المرايا".
قالت له :
من يدخلها لا يرى وجهه ، بل يرى أرواحه.
دخل طارق ، فرأى عشرات الصور له :
طفلٌ يركض في الأزقة يحمل كرةً من قماش.
شابٌ يرتدي بدلة التخرج بعينين تائهتين.
رجلٌ يكتب قصيدةً عن الحرية ،
ثم يمزقها خوفًا من الحقيقة.
وآخرُ يجلسُ وحده أمام النيل يبكي ولا يعرف السبب.
مدّ يده إلى المرآة ، فإذا بها تنكسر ،
وتنفتح من داخلها نافذةٌ ،
تطلّ على سماءٍ غير التي يعرفها.
من تلك السماء خرج صوتٌ يقول له :
"يا طارق ، لا تبحث عن وجهك ، اصنعه."
خرج من الخيمة وهو مختلف.
لم يعد يريد أن يفهم الحياة ، بل أن يعيشها كما هي ،
بعنفها ، بعذوبتها ، بارتباكها المقدّس ، بعذاباتها.
اقترب طارق من العازف الغجري ،
الذي كان يُغني منذ البداية ،
وقال له :
ما اسم هذا اللحن؟
قال العازف :
لا اسم له ، نسميه ما نشعر به.
ثم ناوله العود وقال :
جرّب أن تعزف أنت.
طارق لمس الأوتار بخجلٍ ،
فخرج صوتٌ غريب ،
فيه شيء من الألم وشيء من الرجاء.
قال العازف مبتسمًا :
هذه موسيقاك، يا طارق ، إنها تشبهك :
جرحٌ نقيّ ، ونورٌ متعب.
بدأ الفجر يتسلل.
الغجر يطوون خيامهم ،
والمولد يطفئ أنواره واحدةً تلو الأخرى.
طارق وقف في منتصف الساحة الفارغة ،
كمن يودّع حلمًا عاشه أكثر مما يليق بحلم.
مدّ يده إلى جيبه ، فوجد المسبحة القديمة.
فيها خرزةٌ واحدةٌ مكسورة ،
لكن الضوء يتسرّب منها ،
كما يتسرّب الغفران من قلبٍ تعب.
رفع رأسه إلى السماء وقال :
"يا رب
لم أخرج من هذا المولد إلا وقد وجدت مولدي الحقيقي."
ثم سار في اتجاه النيل ،
كأنه ذاهبٌ ليغتسل من العتمة ،
بينما خلفه بقايا الغجر تلوّح بالألوان وتغني له:
"من عرف الطريق إلى نفسه ، لا يضلّ أبدًا."
بعد أيام ،
شوهد طارق في مقهى صغيرٍ على أطراف القاهرة ،
يعزف لحنًا جديدًا على العود.
سأله أحد المارة :
من أين تعلمتَ العزف؟
ابتسم وقال :
من المولد ، ومن الغجر ، ومن قلبي حين توقّف عن الخوف.
ثم أضاف بصوتٍ يشبه الحنين :
"كلنا مولدٌ واحد ، وغجرٌ نازحون من نغمةٍ إلى نغمة ،
نبحث عن الله في العيون ، وعن أنفسنا في الرقص."
وأغلق عينيه ، فصار اللحن هو الذي يتنفس.
تمت
طارق غريب