(متاهة/الجزء الثالث)
قادتني ميس في البداية الى ثلة من المحلات المتجاورة، لم تكن ضخمة كالتي تنتشر لدينا، لكنها كانت تعج بالترف والجمال، بساطة وذوق وتنظيم، أما الأزهار فكانت تزين أغلب المحال، مما اضفى طابعا كرنفاليا بحضور الطبيعة السخية وعبيرها الأخاذ. تأملنا قناني وزجاجات العطور، تسابقت اصابعنا في تحسس بعضها، بين ضحكاتنا وآهاتنا التي راحت تند عنا مابين الحين والآخر، أعجبتني قارورة ذات لون اسود براق، همهمت ميس معجبة، فاح بعضا من شذاها، فأمتلا منه جو المكان، همست لي ضاحكة فيما كان البائع الشاب يرمقنا بخجل :
-لطالما كنت مغرمة بشذا الياسمين، اتدرين لدي في غرفتي واحدة، لكن ليس كمثل هذا الياسمين. ضيقت عيني، خيل لي وأنا أتأمل ملامحها الضاحكة بأنها إنما كانت تجاملني!مازال البائع الشاب يرمق ميس من طرف خفي، كنت قد لاحظت ذلك، لكن هي لم تكن تبالي، إذ مضت في تحسس وفحص المزيد من زجاجات العطور، لم يستغرق اقتناءنا لعلبتي العطر وقتا طويلا، وضعت ميس الثمن أمام البائع، ابتسم لها هذا، منحته ابتسامة طفيفة احمرت لها اذناه، استقبلنا ضجيج الشارع، لكن اللعينة أمسكت بيدي ضاحكة ،وهي تكاد ان تسقط وقالت :
-على الأرجح هذا الشاب طالب، أو ربما أحد القادمين الجدد من الريف، هل شاهدت كيف أحمر واصفر مثل إشارات المرور، تبا! لا أحب هذا النوع ابدا. سحبتني من ذراعي، فيما كنت مندهشة قليلا ،لكني سرعان ما انقدت لها وانا اهز رأسي ضاحكة، وقفنا هذه المرة، بل تسمرت أقدامنا ،عند زجاج أحد المحال، كانت الثياب المعروضة تضج بالفخامة، لم يعجبني المنظر، فأنا كنت دوما اميل للبساطة في اختيار وارتداء الثياب، لكن ميس دفعت بي إلى الداخل، آه سنضيع أخيرا ، وكأن ثياب العالم اجتمعت هنا! رحنا ندير رؤوسنا في كل الاتجاهات، ثمة موسيقى عذبة كانت قد صدحت قبل قليل، أخذت ترتفع وتنخفض ،وكأن بيتهوفن بنفسه كان يرافقنا، سرنا على أطراف اصابعنا ونحن نتبادل الابتسامات بمكر انثوي، لسنا راقصتي باليه على أية حال، هكذا همست لي ميس بعد لحظات، وهي تشدني من ذراعي إلى حيث وقفت، آه كم هو فاتن وشفاف هذا الفستان، امممم، أشعر بالنعاس من ملمسه، راحت تغمض عينيها وهي تهمس كالحالمة. إنه يلائم السيدة التي معك أكثر مما يلائمك، كان هذا صوت رجولي لعين قد اخرجنا من عالم الاحلام! حدقنا للخلف مندهشتين وقد ارتسم الغضب والاستنكار في ملامحنا، آه كائن شرقي ربما، سمرته تفضحه، بادرته ميس وهي تطلق حروفها كرصاص البندقية :
-هل انت صاحب المكان هذا!؟وإذا كنت فهذه دعاية سيئة عن بضاعتك، تكلم ،هل أكلت القطة لسانك. اذهلتني جرأة ميس، فرغم أنها لم تتجاوز الثالثة والعشرون من عمرها، إلا أنها بدت أكبر من ذلك، كانت غاضبة واصابعها ترتجف، أما الرجل ذو الصوت الأجش والذي تعدى الثلاثون ،فأدهشني انه تعامل مع الأمر ببرود، لم يحمر ولم يرتبك، بل هز كتفيه ورد بلطف زائد :
-انظري ياشقراء، مازلت عند رأيي، الثوب هذا يلائم رفيقتك أكثر، أنه ابيض ويميل للفخامة، تخيلي هذا الثوب مع شعر رفيقتك الأسود الغزير، آه، لوحة جميلة لن تتكرر. ثم راح يرسم جسدي في الهواء وهو ينحني ببطء مثل الأمراء، اصطبغت ملامح وجهي بحمرة قانية، راق لي الرجل ذو الأنف المستقيم والشفاه الرفيعة الحادة، راحت ميس تنظر لي بأستنكار، هل تطلب مني أن اتدخل، وماذا عساني اقول وهو اليوم الأول لي في هذه البلاد، لكن لا، هي ابنة عمي في كل الأحوال، جذبت ذراع ميس، أصبحت أقف بينهما الآن، قلت له وانا ابذل جهدا لأبدو متماسكة :
-شكرا لك ياسيد، لقد كنت لطيفا، هل لك ان تتركنا نتبضع الآن، وقتنا ضيق كما ترى. قلت هذا واريته الساعة في معصم يدي، حدق في وقد ضيق مابين حاجبيه، ياربي، كم فاتنة عيناه النرجسيتان، هز رأسه ثم راح يتراجع بظهره للخلف، لكنه مالبث أن حدج ميس بنظرة عميقة ثابتة، هتف بها :
-الثوب السمائي، نعم ذاك المطرز بالازهار، أنه يتلائم مع بشرتك البيضاء،تخيلي شعرك الأشقر هذا(راح يرسم بأصابعه صورة لشعر منسدل ) ،فجأة ترك ذراعيه تهويان إلى جانبه، هز كتفيه وكأن ما قاله هراء، استدار منصرفا دون أن يلتفت، ومالبث أن غاب خلف الباب الزجاجي الكبير.(يتبع )
بقلم /رعد الإمارة /العراق
20/10/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق