(المرآة)
جلست إلى مرآتي ذات الإطار الفضي،غير عابئة بنداءات امي المتكررة،كنت اتميز غيضا، فالفطور كان يمكن أن ينتظر لدقائق،دقائق قليلة فحسب،أما الجمال،جمالي أنا فلا! كان علي أن أعرف، من أجل ذلك جلست هنا. تنحنحت بصوت مسموع، ورسمت ابتسامة جميلة على فمي، قد لايكون لها مثيل، ثم همست لها :
-صباح الخير ياحلوتي، صباح الورد يامرآتي، حتما سمعت امي وصياحها المتكرر، لذا أرجوك لاتضيعي وقتي، اخبريني إذن من هي الأجمل في هذه الغرفة!؟اهتزت المرآة، قالت بصوت عميق يشبه الصدى :
-انه سؤال بسيط جدا! فالأجمل في هذه الغرفة هو انت.
-آه، إن خداي يحمران، لكن لطفا، هل لي أن أسأل كيف عرفت!؟
-إنه فعلا سؤال سخيف! واعذريني لهذه الكلمة، الجواب بسيط، لأنه لايوجد أحد غيرك في الغرفة. وقفت أمها في باب الغرفة، كان الغضب يرتسم على محياها، قالت :
-انهضي بسرعة، وكفي عن النظر دوما في المرآة، ستصابين بالعمى، أبوك ينتظر، هيا. همست للمرآة قبل أن الحق بأمي :
-لاترحلي يامرآتي، سأعود سريعا. تفحصني ابي بنظراته العميقة، أشار بأن ادنو إليه، قال :
-نعم هكذا أفضل، إجلسي هنا بقربي، الأميرة الحلوة لابد أن تفتح نفس أبيها للطعام.كانت أمي أثناء ذلك قد رفعت ملعقة الحساء عاليا، لكن اصابعها توقفت في الهواء، عندما سمعت كلام ابي لي، هي تتصور إن الدلال الزائد يفسدني، قطبت حاجبيها وقالت :
-عليك أن تكف عن إفسادها، لقد أصبحت ناضجة، الواجب أن تتعلم شؤون المنزل، إنها حتى لاتعرف كيف تقلي بيضة!.وضع ابي كفه الكبيرة على ظاهر يدي، ضغطها بود وقال بعد أن غمزني :
-أنها شاطرة، فقط هي مشغولة بالدراسة، اعدك بأننا قريبا سنتناول بيضا مقليا من صنع يديها الحلوتين، ياالهي انظري يا امرأة ما أشد نعومتهما وجمالهما. قال ابي هذا ثم رفع يدي وراح يقبل اصابعي، طغت الحمرة على ملامح وجهي، فيما تركت امي الملعقة تغرق في الحساء، بعد أن نهضت وغادرت للمطبخ. أنهيت احتساء الشاي، كان قد أصبح باردا،سمعت ابي يكلم امي في المطبخ، علا حديثهما في البداية، لكنه مالبث أن تحول إلى همس، ضحك متبادل، خرجا إلى غرفة الطعام، اقترب ابي مني، انحنى ثم قبلني في رأسي، بعدها غاب خلف الباب. أنهيت فطوري، حاولت رفع الأطباق مع امي لكنها أمسكت بيدي، قالت :
-اغسلي فمك ويديك، حضري واجباتك فغدا مدرسة، هيا اذهبي. كان فراشي دافئا، مررت بأصابعي على الوسادة،شعرت بخدر لذيذ، فكرت بأن اغفو قليلا ،لكن لا، حانت مني نظرة للمرآة الفضية الكبيرة، اسرعت اليها ثم رحت أديم النظر في ملامح وجهي، همست لنفسي :
-أنا الأميرة الجميلة. ثم ضحكت بجذل مثل طفلة، سمعت بعد برهة صوتا عميقا، أشبه بالانين :
-ومن قال غير ذلك. حدقت في زجاج المرآة بدهشة، صفقت بأصابعي العشر، هاهي مرآتي تؤكد كلامي،قلت لها وانا اختلس نظرة نحو باب غرفتي المغلق :
-طيب، من هي جميلة البيت هذا، من هي الأحلى!؟لم يطل جواب المرآة، خيل لي إنه كان أسرع حتى من الصوت نفسه، قالت :
-بالطبع انت، فهذا مؤكد، أما السبب ياعزيزتي فهو إنك وحيدة هذا البيت؛،تذكري إنه لا يوجد أحد غيرك!.لا أعرف، لكن شعرت كما لو إن المرآة تسخر مني، إذ مامعنى قولها لايوجد أحد غيري! ضيقت عيني ثم قررت إطلاق قذيفتي في وجه زجاجها البراق ، هتفت بها وقد استبد بي شيئا من غضب:
-ومن هي الأجمل، من برأيك الأحلى خارج حدود هذا البيت!؟ها، تكلمي وكوني صادقة. ساد سكون، حتى الأنفاس انقطعت لبرهة، راحت تحملق في المرآة، وهي تبحث عند حوافها وفي زجاجها عن جواب لسؤالها، ظلت المرآة صامتة، صمت القبور، إنها تتذكر ماحدث لبعض شقيقاتها مع هذه البنت المدللة الخرقاء، هل عليها أن تقول الحقيقة، فيكون مصيرها تناثرها إلى شظايا، أم تلجأ إلى أسلوب النفاق والمداهنة، فتكسب حياتها!؟أخذت المرآة نفسا عميقا، خرج صوتها الحبيس،أشبه بالحشرجة :
-انت مازلت طفلة،أما أنا فقد قضيت عمري في غرفة أمك الطيبة، رافقتها مذ تزوجت اباك وحتى وقت قريب، قبل أن تمنحني لك ،عوضا عن المرايا العديدة المهشمة بيدك،إذن ياعزيزتي على أحدهم أن يوقف غرورك، وقد اتخذت قرارا بأن أقوم بذلك، فهل أبدا العد!؟كان غضبي في لحظة الهراء، الذي تفوهت به المرآة، قد أصبح لايطاق، كنت اغلي، حتى إن رأسي كاد أن ينفجر، ماذا تظن نفسها هذه المرآة العجوز! قلت لها وانا اهزها هزا:
-ماهذا الكلام يابلهاء، أيتها القذرة، لولا اصابعي التي تمسح عنك الغبار ،لأصبحت قطعة خردة! ثم عن أي عد تتكلمين!؟لم أفهم مغزى عبارتك. كانت المرآة تعرف إن ماستقوله، سيكون آخر كلام لها في هذه الدنيا، لكنها مضت في حديثها وقد هيأت نفسها لذلك، قالت :
-يامسكينة، إن ماقصدته بالعد، هو العدد الهائل من الجميلات اللاتي تمتلىء بهن هذه الدنيا، ثمة آلاف وآلاف منهن خارج أسوار هذه الدار،قد تكوني جميلة من الخارج، لكن جمال الروح مفقود لديك تماما، إنك ميتة من الداخل....!لم تكمل المرآة حديثها، لم ادع هذه الحكيمة المغرورة تنطق بالمزيد، سنرى من هو الميت الآن، حملتها بكلتا ذراعي، بل انتزعتها انتزاعا، لم يند عنها صوت ولم تبد مقاومة تذكر، توسطت الغرفة، ضحكت كما لم أفعل من قبل، ثم رميت بها بكل قوتي نحو الجدار، ارتطمت وارتدت، لكن زجاجها البراق تناثر، حتى تحول بالنهاية إلى عشرات وعشرات من الشظايا التي لاقيمة تذكر لها.
بقلم /رعد الإمارة /العراق
الإثنين في 14/10/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق