الحياة أشبه بالمنطاد، ولكي نرتقي فيه إلى أعلى ما يكون، يجب أن نتخلص من الحمولة الزائدة، وأن نرمي من على متنه كلّ ما يعيق ارتفاعنا وارتقاءنا..(رافاييل جيوردانو)
لطالما استوقفتني هذه العبارة وفكّرت بها مليّاً..فقرار التّخلّي صعب في مجتمع تربّى على التّعصّب للملكيّة، حتى لو كانت ملكيّته بعض خردة من زمن الوأد..
لكنّ قراراً بحجم الحياة يستحقّ مكافأة الحياة نفسها، فعلام الانتظار؟! وقد سرقت المعاناة نصف عمري، فهل أتركها تسرق النصف الآخر في الشكاية؟!
استعدّيت لفتح أدراج سندات الملكية وفرزها، وحضرت أمامي في الحال صورة والدتي عندما كنّا صغارا، وكانت تجلس أمام الصواني لتفرق الحنطة عن الشعير..
كان في الدّرج الأول مرآتي القديمة، بل صورتي القديمة، الّتي أصبحت جزءاً لا يتجزّأ منها، بجدائل الخوف ومشابك الشعر الباهتة..أمسكتها بيدٍ مرتجفة، وأمام رهبة القرار سقطت..وتناثرت أجزاؤها..
وكان في الدّرج الثاني أرقام ورسائل وأشعار، ورود مجفّفة وقصاصات ورق لقلوب منسيّة ومشاعر مخفيّة، وزجاجات عطر فارغة، تبخّرت بحرارة كبد الشوق..
ثمّ سقطت دمعة حرّى، فأحرقتها واستحالت رماداً..
هي دمعة فعلا، لكّنها انتزعت من حدقتي كما تنتزع جذور إنسان من أرضه..
اما الدّرج الثالث، فقد تكدّست به ألبومات الصور، أصدقاء الطّفولة والصّبا، أماكن زرتها، مناسبات حضرتها، ثياب اشتريتها وتباهيت بها، أحداث وألوان..وصور أمّي، أبي، وأخوتي..
فماذا أرمي وماذا أبقي؟! شقّت علي عملية الفرز..
ثم كان اوّل ما رميت صور أشخاص يبعثون على الإحباط والفشل..ويستدعون الضجر والخنوع ولقلقات اللّسان من أقاصي الأرض ليبنوا بها سدوداً منيعة أمام مرأى عيوني ويصوّرونها عصيّة حتّى على زلازل التّحوّلات..
الطًريق إلى سلّة المهملات ربمّا يمرّ بالدموع لكّنه لا يغرقها حتماً..
وحملت بعدها صورة أمّي، كانت أمّي إذا تألّمت تعباً تناولت المسكّنات ثم أكملت عملها..لم تكن تدرك ما معنى أن يستغيث الجسم طلباً للرّاحة..فإذا بي أرمي المسكّنات..
وكان أبي مهووساً بالمحافظة، حتّى إذا سألني أحدهم كيف حالك؟ سبقني إلى الإجابة: إنّها بخير..نعم يا أبي، أنا بخيرٍ الآن..وشتّان بين حفظ الألسن، وكمّ الأفواه..
وكنّا أنا وأخوتي نعيش في دار أسوارها عالية، حتّى نبت لي جناحان..
فشكراً للحياة الّتي أهدتني الأسوار فاضطررت ان أحلّق عالياً لأنجو منها، ولو فتحت أبوابها لخرجت إليها سيراً على الأقدام..
وها أنا اليوم أطير..في سمائي أطير..
بقلمي: غزوة يونس/ لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق