الجمعة، 28 فبراير 2020

قصة قصيرة بعنوان {{صدفة}} بقلم القاص السوري القدير الأستاذ {{آزاد حمكي}}

صدفة
..........
................

منذ رحيلها والآلام تسكنه.

أعوامٌ  مرَّت ولم تذل ذكراها حاضرةً

كذهب أيلول الأصفر لازالت تزين مخيلته.

وما إن عصفت ريح الخريف ، تحركت  في أعماقه كتلك الأوراق التي تطايرت في الهواء

وعلى أنقاض الربيع أسقطتها ريحٌ عاتية فأبت هي السقوط ، واستبسلت في البقاء. 

قرَّر التمرُّد بعد أن باتت حياته خاويةً بائسة، في غيابها يتنفس الصعداء ومن ذكراها يسترق بعض الحياة.

ولمَّا أدرك أنَّ الربيع قد غادره، وآلت أوراقه للسقوط، وبات عُرضةً لخريفٍ آثمٍ تعصف فيه الرياح كما تشاء ، 

تتساقط وريقاته بالتتالي وكأنها نهاية الحياة  ومعها تسقط الآمال .

وكيف لريحٍ عاصفة أن تُسقط أوراقاً كانت منذ عهدٍ تضجُّ بالحياة فأثارت داخله رغبةً بالهروب، كما هان عليها الرحيل قرر هو الرحيل . 

لم يأخذ معه شيئاً سوى معطفه وعلبة الدخان ،وصورةً يتيمةً لها لم يستطع تركها ،فكل الأشياء تذكره بها، حتى عطره المميز الذي كانت تحبه  تركه خلفه.

تجوَّل في أزقَّة المدينة بين الزحام لعلَّ ذاك الضجيج يشد انتباهه. 
استوقفته تلك الفتاة الصغيرة بائعة الورد التي طالما كان يشتري منها الورد الأحمر ليهديه لحبيبته التي كانت تعشق من الورود الأحمر منها.

فانتابته غصةٌ وضاقت به الدنيا حين سألته بائعة الورد أين رفيقتك ياسيدي ؟

ألن تشتري لها وردةً حمراء؟

في تلك اللحظة شعر بخذلانٍ كبير  وأدرك أنَّ حبيبته قد خذلته برحيلها وبابتسامةٍ يلفها الحزن أكمل مسيره دون أن يجيبها.

في تلك الزحمة لم يرى سوى وجهها كل الوجوه تشابهت ودون أن يشعر ساقته قدماه الى الشاطىء .

حيث كان لقاؤهما الأخير  عندما أدارت له ظهرها واستقلَّت مراكب الراحلين الى المجهول  
الى الأعماق هناك حيث الضياع، حيث الشمس تموت غرقاً والأحلام تحيا من جديد.

شدَّه مشهد الأمواج من بعيد وكأنها أرواحٌ تتسابق للنجاة ،كلما اشتدت  الريح ارتفعت كأنها تنهض وتلتقط أنفاسها من جديد .

وفجأةً تتلاشى تلك القوة والجبروت أمام صخرةٍ صامدة وتبعثرها على الرمال وكأنها تقول لها عودي أدراجك الى الأعماق أيتها الأرواح فمن تقاذفته الأمواج تعلَّم منها معنى الغدر ،وتلاشت وعوده وتبعثرت على شاطىء النسيان.

ركب البحر وترك خلفه مدينة أحزان ، فيها من الذكريات ركامٌ وحُطام، كلُّ زقاقٍ يروي قصةً وبقايا أحلام شتتها الخذلان.

حتى النوارس باتت حزينةً لرحيله، ورافقته حتى غاب عن العيان. وبلحظةٍ بات سجين الوحدة وأسير الأطلال .

خيوط الشمس من أمامه تصارع للبقاء وگأنها تتمسك بقبسٍ من السماء تأبى الرحيل والغوص في بحرٍ من الظلام .

والبدر باتت ترتسم ملامحه في وسط السماء وگأنه نافذةُ خلاصٍ قد أعدَّها الله لمن ملَّ الحياة واستوطنته الأطلال.

مدَّ يده علَّه يدرك الخلاص، فأيقن أن الخلاص ليس نافذةً إنما هو إرادةٌ وقرار .

ذرف دموع الوداع والغيوم معه عصفت وأمطرت حتى ابتلت ثيابه وتجمدَّت في القلب الأحزان وتسللت لروحه السكينة والهدوء .

تناول علبة الدخان من جيبه ومن بين السجائر المبللة اختار واحدةً لم يغزوها البلل وأشعلها وإذ بصورتها المبللة ملتصقةٌ بالعلبة ،وكأنها تقصدَّت الاختباء وطاب لها المكوث .

انتزعها وتأملها ومن على ظهر المركب جلس ونظر الى الغروب حيث الشمس آفلةٌ إلى زوال وكأنه الوداع الأخير تأملها جيداً بعد أن خَفَتَ وهجها وبانت ملامحها وغاص فيها رأى وجه حبيبته مبتسمةً بعكس أخر لقاء. 

حيث كان الحزن والشحوب سيد الموقف سمع همسها وهي تقول له لاتحزن فإن السعادة مقبلةٌ نحوك والفرح لن يضِّل سبيله إليك فمن مثلك لايليق بهم إلا الفرح.

ظلَّ يراقب وجهها في قرص الشمس وابتسامتها شيئاً فشيئاً تلامس سطح البحر وتغوص فيه، مدَّ يده لعله يدركها لكن دورة الحياة كانت أسرع منه، واختفت ملامحها ولازال يمعن النظر علَّها تعود .

صمتٌ قاتل خيَّم عليه واختنقت الكلمات في الحناجر وسكينةٌ وهدوءٌ أصاب النبض وكأنه هدوء ما قبل العاصفة .

صورتها لم تفارق عينيه، التفت حوله وإذا به وحيدٌ على المركب، لم تبصر عيناه أولئك الراحلين الهاربين من أقدارهم المهاجرين لوجهةٍ  غير معلومة، وحيدٌ هو وحوله كل هذه الوجوه غريبٌ هو بين هذا الحضور، موقفٌ لايحسد عليه.

وبنظرةٍ واثقة وخطىً ثابتة وقف ورمى آخر ذكرى منها صورتها التي كانت رفيقةً له أمسكها وفي البحر رماها مع ماتبقى من الذكريات التي طالما أربكت قلبه وأورثته العناء.

ظلَّ يراقب صورتها والأمواج تقلِّبها وتأخذها بعيداً لتستقر في قاعٍ غنيٍ بالذكريات ومليءٍ بأرواحٍ كان البحر ملاذها ومستقرها،  وظلَّت عيناه ترقبها إلى أن غابت عنه .

في تلك اللحظة شعر بالوحدة تحاصره وتنال منه وثارت الأحاسيس وتمرَّد النبض وفاضت الدموع في المآقي منتظرةً ساعة الصفر .

وانتابته لحظة ضعفٍ ويأس، وقرر أن يقفز خلفها فروحه لازالت بها معلقة .

إلا أنَّ إيمانه القوي بأن كل ما يصيبنا هو من عند الله، ولا اعتراض على حكمه ،ويقينه بأن الغد أجمل، منعه من هذا الجنون.

نظر في وجوه الراحلين من حوله تأملهم وأمعن النظر ، رأى الشقاء والحزن على وجوههم ، وفي أعينهم بريق أملٍ بغدٍ مشرقٍ يلوح في أفقٍ بعيد، وفي صمتهم قرأ هروباً من واقعٍ الهَّم صِبغته ومستقبله شقاء.

لكلٍ منهم قصةٌ وحكاية مرسومةٌ على وجوههم وتبوح بها نظراتهم وينطق بها صمتهم. 

شدَّ انتباهه فتاةٌ في عقدها الثاني مازال الربيع يانعاً على خديها وشعرها المنثور في الهواء كأنه الليل في عتمته .

وذاك الثغر الجميل يدندن لحن حبٍ على أنغامه القلوب تميل كنوروز بلادي شامخة هي، وبالحب تنادي ، تتحدى الفناء، وفي عينيها رواية حزنٍ خطَّت حروفها الحياة. 

تقرَّب منها وگأن شيئاً مايدفعه ويشده إليها

شعورٌ بداخله أذاب الجليد وأيقظ أحاسيسه من ثُباتٍ عميق .

فكلما دنا خطوةً منها ازداد النبض وارتسمت على وجهه لهفةُ العائد المشتاق .

شيءٌ ما شدَّه للخلف وتردد فأثقل الخطى .

ربما هو الخوف من نزفٍ جديد ، وعاد أدراجه حيث كان جالساً ، فلازال قلبه يئن وينزف من جرح الأمس ،ولازالت لحظة الوداع تمر من أمامه وكأنها تودعه الأن، وتسأله الرحيل والمضي معه.

لفت انتباهها بتلك اللهفة التي فقدتها منذ عهودٍ في عيون العابرين،

وبقايا الحزن المرسومة في عتمة عينيه، جعلتها لاترفع بصرها عنه. أحسَّت التردد في خطاه فكلما خطا نحوها خطوة عاد خطوتين للوراء،

وعندما عاد لكرسيه باتت تسترق النظر إليه، وتتأمل تحركاته وفي قلبها ألف سؤال يدور حوله.

خيَّم الليل ولازال جالساً يتنفس الصعداء ودخان سجائره يسرق من أنفاسه وينفث في الهواء آلام الحنين،

هدوءٌ وسكونٌ حيث الجميع يتأملون بذهولٍ تلك الفسحة وذاك الفراغ ، حيث السماء ملتحمةٌ بسطح البحر وكأنَّ لا يابسة في هذا الكون . 

البحر بانعكاس وهج النجوم عليه، والقمر المعلق في وسط السماء، كأنه لوحةًٌ مرسومة على سطح البحر بأيادٍ ربانية. 

عتمةٌ في الأفق اختلطت بنور السماء ، بساطٌ مختلف الألوان يغطي سطحه . في ذاك الهدوء وتلك الفوضى التي ملأت الروح، وإذ بتلك الفتاة واقفةٌ تتأمل هذه اللوحة وتسترق النظر إليه كل حين.

ساعاتٌ مرَّت وكلٌ قد قيَّده الصمت وكأنهم يرسمون أحلامهم في الهواء،

اقتربت الساعة وهاهي أنوار المدينة تنعكس في السماء، وكأنها قناديل قد أسدلت من الفضاء. 

وبات اللقاء رهين فجرٍ قريب، يلوح بصمتٍ في الأفق البعيد .

خيوط نورٍ تُشِّع بصمت ولون السماء بها يستضيء .

وجاء الصباح بالتباشير.
 نعم إنها النوارس تحلق في الفضاء وكأنها تحتفل بنا .

قال في سرِّه ليتني أفهم ماتقول إنها تدنوا منا وترتفع ،وكأنها تبلغنا السلام .

الشمس في الأفق قد لاحت وكأنها في مخاضٍ ، تحاول النجاة في عرض البحر لتنشر الدفء. 

رسى المركب على أحد أرصفة الميناء وبدا الراحلون في لهفةٍ ، كلٌ يلملم متاعه إيذاناً بالنزول .

وحده لم يكن يحمل معه سوى بعض ذكريات 

وقف يتأمل الواصلين يبحث عنها بين المسافرين، وإذ العين بالعين تأتي، تبسّمت له وكأن عيناها تقول له ادنُ مني ....

ابتسم لها وبنظرةٍ تفوح منها مرارة الخذلان، وكأنه يقول لها ليس الأن فالقلب لازال أسير الأحزان .

افترقا وكلاهما بالوصل يأملان ، وتاه في أزقَّة المدينة يبحث عن النسيان.

ومرَّت أيام وأعقبتها أيام ولازال في التيه غارقٌ بلا عنوان.

تذكَّر تلك الفتاة وآلمه أنه صدَّ النبض عنها وقرَّر أن يبحث عنها في هذا الزحام....

أسابيع مرّت وتلتها أشهرٌ وسنوات ، ولازالت نظراتها تلك تداعب الوجدان .

بينما هو على الشاطىء يستذكر النسيان 
لمح وجهها من بعيدٍ إنها هي نعم هي وعاد للنبض الحياة ولهفةٌ افتقدها منذ زمن .

تحرّك نحوها كي يدركها ويلقي عليها تحية الصباح
وعندما رأته مقبلاً ثار نبضها وارتسمت على وجهها ملامح الشوق والحنين .

اقترب منها

وأطال النظر في عينيها وقال لها:

أنا الذي على الأطلال تمرَّد قلبي وعلى أرصفة الحنين تركت حزني وفي ظُلمات البحر أغرقت آلامي والى الغد المشرق وجهت وجهي وعلَّقت آمالي، قلبي الذي ملَّه النبض في انتظار حبيبٍ كان الهجر عنوانه هجر الهوى ولمَّا رآكِ اليوم عاد إليه النبض والأمل.

ولمَّا رأت في عينيه لوعة الألم قالت له: 

قد ذاق قلبك طعم الهجر ولم يزلِ للنبض يسعى رغم مرارة الألم 

مابال قلبي إن رأى عاشقين اثنين في الهوى ثمل، تمنى وفي بعض التمني ألمٌ لو أنَّ عابراً في الهوى قصده كل الذين من هنا مرُّوا صدّوا نداء القلب ولم يجبوا، كتمتُ هوايا في قلبي ولم أذل أخفيه خوفاً من مارقٍ ثَملِ ،يرمي الفؤاد بسهمٍ لست أمنعه ،ويورث القلب مزيداً من الألم ركبتُ البحر لعلَّ الموج يحملني، إلى حبيبٍ في لقياه ينصفني يروي فؤاداً أصابه سقمٌ من الخذلان ومن حماقة القدر ...... 

قال لها: لاتحسبي لقاؤنا اليوم جاء عن عبثٍ هي الأقدار قد ساقت لنا السبل نحوى الوصال في صدفةٍ لسنا نعلمها بها القلوب أزهرت في غير ميعادِ والروح صاغت بخيوط الوصل وجهتها الى غدٍ فيه للحب منزلةٌ وليس يثنيه لا هجرٌ ولا قيد .

هاتِ إليَّ يدك وليعلم الملأُ أنَّ حكايةً قد حِيكَت بدايتها في عرض بحرٍ شهدت عليه الشمس والقمر وليعلم الراحلون أنَّ الأقدار منصفةٌ هم الخاسرون ونحن بالهوى فزنا وللعابرين أقول أن المحبة هِبةٌ فرُبَّ صدفةٍ تنجي من الألام والحَزَنِ فيها حياةٌ تغني عن كل من هجروا.

 ........
بقلمي 
آزاد حمكي

ليست هناك تعليقات: