(كل هذا الحب)
مضت أيام قلائل منذ أن توفيت زوجتي،وتلاشى القلة القليلة ممن حضروا لمواساتي! وجدت نفسي وحيدا ذليلا محاطا بالآهات والذكريات الحارة! كانت صورتها الموشحة بأطار ذهبي تزين صالة الإستقبال، وثمة شارة سوداء في الركن العلوي منها تذكرني بأن زوجتي قد ماتت حقا! كانت هي من تعد لي القهوة بمزاج لايعادله مزاج، الآن علي أن أفعل ذلك بنفسي فحسب، تبا! أنا حتى لا أعرف أين مكان البن. رحت أجول في المطبخ، كان ثمة غبار كثير لوث أصابعي وانا افعل ذلك ، بحثت هنا وهناك، أين أنت يابن، أين اختبأت عليك اللعنة! كانت أصابعي ترتجف، اصبحت اثور على نفسي لأتفه الأسباب، أمسكت ببراد الشاي، شطفته بالماء، اكتشفت بأن إعداد الشاي أسهل وأفضل في ظل غياب البن الخبيث. عدت لصالة الاستقبال وبيدي كوب الشاي الساخن، أشعلت سيجارة، رفعت وجهي فأصطدم نظري بعينيها الضاحكتين، خيل لي وأنا أسحب نفسا عميقا، إن حاجبيها انعقدا، وتحول المرح في نظرة عينيها إلى عتاب شديد وكأنها تقول :
-أين وعدك! التدخين خط أحمر، أنت الخسران، لن امنحك فمي لتقبله. خنقتني العبرة، مازلت اتذكر معظم كلماتها، همست :
-حاضر حبيبتي، انظري، سأطفئها. نهضت عن مقعدي، فكرت بأن الخروج في جولة قد يجلب بعض الراحة لروحي المتوجعة، التفت للصورة ذات التقاسيم العذبة، آه،هذه المرة خيل لي بأن زوجتي قد هزت رأسها وكأنها تقول :
-اذهب حبيبي، لكن أحذرك ! كن عاقلا فحسب. كدت أن انحب بصوت عال حينما وصلت بتخيلاتي لهذه النقطة، رغما عني وكأي شخص يسير نحو الجنون هززت رأسي وقلت :
-أعدك، سأكون في قمة الأدب. تعثرت مرتين قبل أن يتماسك جسدي، كنت أشعر بالأرهاق، وازنت نفسي ثم قادتني خطواتي صوب احد المقاهي القريبة،اتخذت من إحدى الطاولات القريبة للشارع مكانا لي، كنت أحاول الذوبان في زحام الناس وضجيجهم قدر الإمكان، طلبت قهوة، وقف النادل ينتظر إن كنت سأطلب شيئا آخر،كدت أن أقول له، اريد القهوة كما تعدها زوجتي، بلا زيادة أو نقصان! استدار النادل يلبي طلبا آخر، أشعلت سيجارة، ابتسمت لنفسي بضعف، فكرت بأنها كانت ستشد أذني لو إنها لمحت وهج السيجارة،وضع النادل قهوتي، طلبت قنينة ماء ومنفضة، حاول أن ينصرف، ناديته فألتفت، قلت :
-علبة سجائر أيضا لو سمحت، هاك النقود، علبة مثل هذه لاتنسى. اريته العلبة، رمش بعينيه، أخذ النقود وغاب عن نظري. تذكرت إني لم اتناول فطوري، كانت فناجين القهوة الثلاث قد سدت نفسي فعلا، اومأت للنادل الذي لبى طلبي بسرعة، نفحته بقشيشا جيدا، حاولت النهوض فأخذت الأشياء تدور أمام عيني، اصفر وجهي لكني ابتسمت بضعف وهمست قبل أن يهوي جسدي للأرض :
-الله، مراجيح، إنها تهبط وترتفع. كان النادل وثلة من رواد المقهى يقفون فوق رأسي عندما افقت، شعرت بالخجل، رحت امسح عن وجهي رذاذ الماء، سمعت صوتا يقول :
-الحمد لله على السلامة، هل تحتاج طبيب. وجدت رأسي يهتز بعلامة الرفض، تشبثت بالمقعد، حاولت النهوض، همس النادل وهو يسندني من الخلف :
-سلامتك استاذ. نفضت عن ثيابي ماعلق بها من غبار، تصفحت الوجوه المتحلقة حولي بسرعة، حاولت أن ابتسم فيما كانت خطواتي تقودني صوب الشقة. اتكأت على السلالم، رفعت رأسي للأعلى، ضحكت بصوت خافت وقلت مع نفسي :
-انه من أثر الإجهاد والسهر، لن أعبر صوب هذه المقهى ابدا، سأموت من الخجل لو فعلت. فتحت الباب على مصراعيه، اخذت نفسا عميقا ملأت به صدري ثم احتوت خطواتي صالة الإستقبال، اخفيت علبة السجائر بسرعة والتقت نظراتي بعينيها الواسعتين، حاولت أن لا ارمش، ثبت نظري في سواد عينيها، خيل لي فجأة إنها رمشت، قبل أن تهز رأسها يمنة ويسرة وتقول:
-هذا كله من قلة الأكل، لقد حامت روحي حولك وانت تهوي أرضا، آه، حاولت إسنادك بيدي حبيبي! لقد فعلت أقسم لك. تهاوى جسدي هذه المرة على المقعد، خيل لي وللمرة الألف بأنها همست :
-إسم الله حبيبي. وجدت نفسي أسند رأسي على حافة المنضدة ثم انحب بصوت عال، لكني عندما رفعت رأسي، خيل لي بأن إطار الصورة راح يهتز بقوة، مرة بعد مرة!. (تمت)
بقلم /رعد الإمارة /العراق
٨/٣/٢٠٢٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق