الجمعة، 6 مارس 2020

قصة قصيرة بعنوان {{الهارب}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

الهارب 

قال صاحب معمل المخللات وهو يحتضن رأسي ويقبله :
-لو لم يكن وجودك مع عائلتك ضروريا لما فرطت بك، لاتغب طويلا ياولدي ، رتب وضعك وعد لي، سأحفظ لك مكانك، لقد تعودت عليك،ستبدو بغداد موحشة.  غلبني التأثر ولاحت الدموع في عيني، كنت تائها غريبا وخجولا عندما قدمت إلى بغداد قبل ثلاث سنوات، لكن هذا الرجل، بل هذا الملاك وضع حدا لمعاناتي،اوصاه بي صاحب مقهى في شارع الرشيد كنت أتردد عليه، رحت اشتغل وكأني صاحب المال، بذلت جهدا كبيرا في جذب الزبائن، وكنت اواصل الليل مع النهار وأنا أعرض منتجات المعمل المتنوعة بأسلوب جذاب نال رضا العشرات من أصحاب المحال والمطاعم!. الآن انا أودع كل ذلك، فبعد وفاة أبي أصبح وجودي ضروريا في الدار، بأعتباري الأخ الأكبر لأربعة شقيقات وثلاثة أشقاء لم يتجاوز اكبرهم الخامسة عشرة من عمره! في البداية رفضت أمي أن أتخلى عن عملي، قالت إنه رزقنا ورأس مالنا في هذه الحياة الصعبة، لكن كان لعمي رأي آخر بعد انتهاء أيام الفاتحة الثلاثة، قال :

-عليك أن تصفي أمورك في بغداد، لاتنسى إنك الكبير وعمود البيت،ثم إن لديك شقيقات بدأت ملامح النضج تظهر عليهن! أنت شاطر وستجد أفضل الأعمال هنا. كان صاحب المعمل وهو يودعني، قد دس مظروفا بدا ضخما في جيبي،قال :
-راتبك في هذا المظروف،ومبلغ آخر عيدية مني للعائلة الكريمة. تضرج وجهي بالأحمرار ،ذكرني بأبي، دمعت عيني فأنحنيت أقبل يده لكنه سحبها بسرعة وهو يقول :
-إذهب بسرعة، اذهب قبل أن أبكي انا الآخر. في طريقي لمرآب النهضة مررت بسوق الشورجة، تحسست حقيبتي الحمراء شبه الفارغة ،لقد آن الأوان لملئها بالهدايا، كنت حذرا وأنا التمس بعض المال من بين ثنايا المظروف الضخم، التفت يمنة ويسرة، فكرت بأن السراق ينتشرون في مثل هذه الأماكن المزدحمة. أصبحت الحقيبة ثقيلة الآن، شعرت بأنه لم يبقى متسع لشيء آخر، أوقفت إحدى سيارات الأجرة، همست فيما كان النسيم البارد يداعب ملامح وجهي، أنا قادم يا أمي. أخذ قلبي يخفق بسرعة، آه، لقد دخلنا حدود مدينتي أخيرا، أشعر بجوع كبير منذ الآن، أغمضت عيني وأنا أتخيل الأطعمة الدسمة التي تتفنن أمي وشقيقاتي في إعدادها، ربت على حقيبتي التي استندت عليها طوال رحلتي، كانت تستحق فعلا أن تشغل مقعدا بجانبي، لطالما رافقتني في سفراتي العديدة، أظن بأن الوقت قد حان لكي تأخذ إجازة، وتستقر في دولابي مع اغراضي الأخرى!.كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة عصرا حين توقف سائق الحافلة الضخمة قريبا من مرآب السيارات،ما أن وضعت اقدامي أرضا حتى تقدم مني بعض من أصحاب سيارات الأجرة الصغيرة، لا أعرف من خطف الحقيبة ولا كيف! لكني وجدت نفسي اجلس بقرب سائق شاب سرعان ما انطلق بعد أن اعطيته العنوان، أما حقيبتي المدللة فقد شغلت المقعد الخلفي. كنت متعبا من رحلة السفر، رحت أمشي بصورة متثاقلة في شارعنا شبه المعبد،رفعت رأسي، كانت دارنا تلوح من بعيد، آه، أخيرا عدت، أخذ قلبي يخفق بشدة وأنا أتقدم صوب البيت الصغير الذي يضم بين أركانه أعز الناس. كانت أمي قد وقفت خلف أخي الصغير وهو يفتح الباب لي، حدقت فيها وفاضت عيني، فتح أخي كلتا يديه الصغيرتين لأحتضاني، لكني ألقيت بنفسي بين ذراعي أمي التي راحت تشمني وهي تنتحب على كتفي. تجمع أشقائي  وشقيقاتي عند باب الهول الصغير، كنت مرتبكا، لكن إخوتي كانوا أكثر ارتباكا مني، ظلت أمي متعلقة بذراعي وهي تقبلني مابين لحظة وأخرى وكأني أسير حرب عاد بعد خريف العمر! وضعت الحقيبة بجانبي، جلسنا أنا وأمي ملتصقين فيما تحلق إخوتي حولي، لمحت بطرف عيني أصابع أخي الصغير، ياربي، كان يعبث بسحاب الحقيبة، نهرته شقيقتي التي تصغرني بسنة، انكمشت أصابعه وخفض نظره للأرض! كاد منظره هذا...،تبا، أمسكت بأصابعه الطرية اللزجة وهمست له قريبا من أذنه :
-أحضرت لك هدايا تجنن،دللتك هذه المرة. عقد مابين حاجبيه وهو يختلس النظر لأمي، حول نظره للآخرين ثم لاذ بحضن أقرب واحدة من شقيقاتي اللواتي احمرت خدودهن من الضحك. (ملاحظة:من رواية لي في الطريق، قد يتغير إسمها ،هل أنفع في كتابة رواية؟ 😮

بقلم /رعد الإمارة /العراق 
6/3/2020

ليست هناك تعليقات: