الثلاثاء، 10 مارس 2020

قصة قصيرة بعنوان {{سيجارة}} بقلم القاص العراقي القدير الأستاذ{{رعد الإمارة}}

سيجارة 

ايقظني ابن عمي اللعين منذ الصباح الباكر! كان النعاس  مايزال يداعب اجفاني، حاولت جذب الغطاء وإخفاء رأسي ،لكن يده كانت أسرع مني، قال وهو يطلق كلماته كالرصاص في وجهي :
-سيفوتنا إبتياع الكتب الدسمة، ستنفد كل القصص البوليسية،هيا إرتد ثيابك، سأنتظرك خارج البيت. الأرعن وضع حدا لكل إعتراضاتي ، رحنا نمشي بسرعة، سمعته يضحك من خلفي وهو يقول من بين لهاثه:
-من يراك وانت ملتصق بالفراش لايصدق هرولتك الخرقاء  الآن، إصبر،جعلتنا نتعثر في أقدامنا كالمجانين. واصلت المشي السريع، كان تدخينه المبكر للسجائر قد اتلف رئتيه، توقفت لأمنحه فرصة اللحاق بي، كاد أن يصطدم بظهري  وهو يسعل، قلت وانا اضحك :
-هذه البداية فقط. وضع كلتا يديه على خاصرته وراح يطرد الهواء الفاسد بزفيره ، قال :
-لن اشرب سجائر بعد الآن. أمسك أذنه علامة التوبة وهو يقول ذلك، ثم أخرج علبة السجائر وأخذ يدوسها بكلتا قدميه بصورة هزلية اضحكتني كثيرا. انطلقت بنا الحافلة بعد أن تركت خلفها سحابة سوداء ملتوية كالثعبان، قلت له وانا أضحك ساخرا :
-حتى الحافلة تشكو من تعب في ماكنتها الرئوية. تركت وجهي يصافحه  الهواء البارد، كنت أحدق  من خلال النافذة في المارة الذين كانوا يشيرون للحافلة، دون أن يعبأ سائقها المنطلق بسرعة بهم، التفت أبن عمي صوبي وقال فجأة :
-اشتقت للسيجارة. كان أصابعه ترتجف وقد خيمت الكآبة على ملامح وجهه، قلت وانا اربت على فخذه :
-تحمل ياصديقي، سنحصل بعد قليل على بعض الروايات التي ستشغلك عنها،- حدق في بسخرية - صدقني ستنجح في نسيانها. قبض بشدة على طرف المقعد أمامه ثم ضربه بقوة، شعرت بمن يرفع رأسه ويحدق فينا، كان صاحب المقعد العجوز! قال :
-كررها ،إن كنت إبن ابيك!. الملعون كان يحدق في وهو يتكلم، أخفى رأسه خلف المقعد، كتم ابن عمي ضحكة كبيرة كادت أن تفلت من فمه، لكنه أطلقها مدوية حين بارحنا الحافلة المكتظة. كان أغلب الباعة الجوالون في سبيلهم لأفتراش الأرض الترابية، عبرنا الشارع بسرعة بين صراخ  وتحذير أصحاب السيارات العابرة ،وأصوات منبهاتهم المزعجة، أخرج أحدهم رأسه فيما كنا نواصل الهرولة، قال :
-شباب آخر زمن. كتمنا ضحكاتنا ونحن نخطو صوب رجل كبير السن، ما أن رآنا حتى أخذ ينفض الغبار عن أغلفة كتبه القليلة المعروضة،أمسك بكتاب البؤساء وراح يهزه بكبرياء، انحنى ابن عمي فيما رحت اتفرج من خلفه، قال للرجل العجوز :
-ياعم لقد قرآناه الف مرة، هل عندك اجاثا كريستي! آرسين لوبين، شارلوك المحقق والبايب العجيب. أنزل الرجل كتاب البؤساء وقطب حاجبيه ثم راح يهز يده المعروقة، قال :
-لم أسمع بهذه الكتب، أنا لا اقرأ! هذه الكتب لأبنتي  - أشار للبؤساء - قالت هذا الكتاب مرغوب، هكذا أوصتني، تريد شراء ماكنة خياطة ابنتي العزيزة. قالها بفخر ثم أخرج سيجارة، اشعلها وراحت أصابعه ترتجف، تنهد ابن عمي، رفع رأسه وأخذ يحدق في، لمحت تلك النظرة التي أعرفها في عينيه، تبا لك يا إبن العم، سرعان ما احمرت عينيه، قال للعجوز :
-بكم هذه الكتب كلها، أعني هذا وهذا وذاك،والبؤساء أيضا! راح العجوز يحدق في وجه ابن عمي بدهشة، هز الأخير رأسه وابتسم ، اعتدل العجوز في جلسته ثم أخذ يحسب الثمن على أصابعه، وضعت يدي على كتف ابن عمي، لكنه ابعدها بسرعة، احصى مالديه من مال، التفت صوبي ثم مد يده وقال بصوت رجولي جاف :
-اقرضني بعض المال، سأرده لك هناك. وضع العجوز الكتب في كيس كبير، راح ابن عمي يساعده بهمة ونشاط، سمعت العجوز يقول له وهو يوشك على البكاء :
-جبرت بخاطري، ربي يسعدك. ظل ابن عمي يلاحق بنظره خطوات العجوز وهي تذوب في الزحام، قال :
-لم يتبقى لدينا مال، الأفضل أن نعود، أنت صديق طيب يا ابن عمي، سيتوجب علينا قراءة البؤساء مرة أخرى ياعزيزي. قال هذا ومنحني غمزة ثم أخذ يضحك، حملت الكيس الكبير عنه، سار بخطوات واسعة أمامي، سمعته يدمدم وهو يرفع يديه للسماء:
-تبا للسجائر. لم أستطع أن اهز رأسي ،كانت الكتب تثقل كاهلي وأنا أحملها على ظهري ،فجأة تسمرت في مكاني، فقد صك سمعي صوت فرامل سيارة مسرعة وهي ترتطم برصيف الشارع المقابل، رحت أحدق بذهول في جسد ابن عمي الملتوي الطائر في الهواء! لم أعد أسمع شيء،أما نظري فقد ظل معلقا في الفراغ الذي كان يملؤه إبن عمي قبل أن يهوي إلى الأرض في سقوط مدوي، هرع بعض المارة وسواق السيارات، كان بعضهم قد أحاط بسائق السيارة الذي أخذ يلطم وجهه، وجدت نفسي ملطخا بالدم وانا احتضن جسده وانشج بصوت عال، طلب بعضهم سيارة إسعاف، مد آخرون أيديهم وحاولوا ابعادي، سمعت بعض الأصوات الضاجة تهتف بي، اتركهم يأخذونه للمستشفى، مازال حيا لاتبكي، كانت أصابعه متشبثة بثوبي، ازاح أحد الواقفين الدم عن وجهه، نظر ابن عمي صوبي ولآخر مرة ،وخيل لي قبل أن يحملونه بعيدا أنه قال :
-سيجارة. (تمت )

بقلم /رعد الإمارة /العراق 

9/3/2020

ليست هناك تعليقات: